فرنسا والأرمن.. التاريخ بعين السياسي

فرنسا والأرمن.. التاريخ بعين السياسي

20 فبراير 2019

ماكرون يزور نصب الضحايا في عاصمة أرمينيا (11/10/2018/فرانس برس)

+ الخط -
أوفى الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بوعد انتخابي قطعه قبل ثلاث سنوات خلت، عندما أعلن، قبل أيام، في مأدبة عشاء سنوية لمجلس تنسيق المنظمات الأرمنية في فرنسا، أن بلاده ستحيي في 24 أبريل/ نيسان المقبل ذكرى "الإبادة الجماعية" للأرمن على يد الإمبراطورية العثمانية سنة 1915. بهذا، يرفع ماكرون السقف عاليا عن باقي الرؤساء ممن استغلوا الورقة الأرمينية في الدبلوماسية الفرنسية؛ فسلفه فرانسوا هولاند اكتفى بإحياء مئوية "المذبحة" عام 2015، في وقتٍ يعود فيه الاعتراف الفرنسي رسميا بواقعة "الإبادة" إلى عام 2001.
اعتبر ماكرون أن "فرنسا تواجه التاريخ" بهذا القرار؛ فبموجبه تعترف الدولة الفرنسية رسميا بأن قتل ما يقدر بـحوالي مليون ونصف مليون أرمني، في شرق تركيا بين عامي 1915 و1916، يعتبر إبادة جماعية. ما يعني مزيدا من توتير العلاقات بين تركيا وفرنسا المتوتّرة أصلا؛ بسبب معارضة باريس الدائمة مساعي تركيا الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي، ودعمها القوي القضية الكردية، والاستغناء عن توظيف الأئمة الأتراك في المساجد الفرنسية مخافة تغلغل أفكار الإسلام السياسي، علاوةً على تباين التقديرات بشأن قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي.
تقرُ تركيا بأن تلك الأحداث التي راح ضحيتها حوالي ستمائة ألف أرمني؛ قتل أغلبهم بسبب المرض والفاقة، مأساة إنسانية لكلا الطرفين، من دون وصفها بـ"الإبادة الجماعية"، فهذه، وبحسب اتفاقية 1948 التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة بخصوص منع جريمة 
الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها، تعني التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قوميةٍ أو إثنيةٍ أو دينية، وهذا ما لا تعتبره تركيا قائما، فلا وجود لسياسةٍ ممنهجةٍ ترمي إلى القضاء على الأرمن، ما قد يبرّر صحة هذا الاتهام، فما حدث، بحسب رواية الدولة التركية، كان لضرورة عسكرية، في وقتٍ كان فيه الجيش الروسي يتقدّم نحو منطقة أرمينيا القديمة، بينما كان الجيش التركي في الغرب يقاوم محاولة الحلفاء دفع الأتراك نحو منطقة المضيق. بهذا، يبقى الخلاف على أشدّه بين مؤرخي تلك الحقبة بشأن مدى وجود تخطيط مسبق من قادة الحكومة المركزية في القسطنطينية، لتصفية العثمانيين الأرمنيين، أم أن تلك الوقائع تزامنت مصادفةً مع عملية نقل السكان من القومية الأرمنية من مكانٍ إلى آخر، على أراضي الإمبراطورية لدواعٍ حربية صرفة.
شكل هذا الإقرار محفّزا للجانب الأرميني، أقدم بموجبه، في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2009، على الجلوس إلى طاولة الحوار في زيورخ، خطوة أولى من أجل تطبيع العلاقات مع تركيا، تُوجت بتوقيع الجانبين على بروتوكولين، من أجل إعادة تأسيس العلاقات الدبلوماسية، والعمل على تعزيز التعاون المشترك، وتطوير العلاقات بينهما، مع وجوب القيام بدراسة علمية محايدة للمراجع التاريخية والأرشيفات، من أجل بناء الثقة المتبادلة، وحل كل المشكلات العالقة بين البلدين، فضلا عن الاعتراف المتبادل بحدود البلدين، وفتح الحدود المشتركة بينهما.
لقيت هذه المساعي الرامية إلى إنهاء فتيل الصراع بين الدولتين اعتراضا من المحكمة الدستورية الأرمينية، بعدما تحفظت على البروتوكولين، بدعوى تعارض مقتضياتهما مع التشريعات الوطنية للبلد، فإعلان الاستقلال؛ على سبيل المثال، ينصّ على ضرورة "مواصلة الجهود من أجل القبول بالإبادة الجماعية في الساحة الدولية"، ويعتبر شرقي تركيا جزءا من الوطن الأرمني (أرمينيا الغربية). بذلك، يجمد هذا القرار الدستوري عملية المصادقة، قبل أن يتم سحب النصين معا؛ نهائيا، من أجندة البرلمان الأرميني، في فبراير/ شباط عام 1952.
لا تبتعد المسألة الأرمينية عن كونها من الأوراق التي احتفظت بها القوى الاستعمارية الكبرى لنفسها، كي تستعملها ورقة للتهديد والمساومة، متى كانت الحاجة تستدعي ذلك. من البين أن فرنسا من الجهات التي ترغب في بقاء المأساة الأرمنية معلقةً بلا أي حل، حتى تجد بين يديها وسيلةً لمنع حصول تركيا على عضوية النادي؛ فالكل يتذكّر أن باريس كانت ضد دخول 
بريطانيا، ما يعني أنها لا ترغب في أعضاء أقوياء في الاتحاد، وأداة لرسم حدود الندّية والتنافس والصراع بين باريس وإسطنبول.
على فرض أن "إبادة الأرمن" على يد العثمانيين حقيقة مثبتة تاريخيا بوثائق وحجج دالة، فإن تولي فرنسا حمل لواء الدفاع عن الأرمن يحمل إساءة للقومية الأرمينية ولقضيتهم، فتاريخ فرنسا الحافل بالمجازر في شمال القارة الأفريقية وأعماقها؛ خصوصا في كل من المغرب (1907) والسنغال (1944) والجرائر (1945)...، وحاضر سياساتها العسكرية في دولٍ عديدة، كأفريقيا الوسطى ومالي وتشاد...، واللعب القذر الذي تمارسه في الشأن الليبي منذ زمن القذافي يسائل مصداقية خطابها عن حقوق الإنسان، وكشف انتهاكاتها، وحرصها على حماية الأقليات.
أكثر من ذلك، يقبل الرئيس الفرنسي ماكرون لنفسه، وهو يتحدّث عن جرائم الاستعمار في القارة الأفريقية، أن يقدم وجهين معا فيقول: "كانت هناك جرائم كبيرة، ولكن كانت هناك أيضا عناصر حضارية وتواريخ سعيدة". ويصر على إنكار ذلك في التجربة العثمانية، ناسيا أنها الإمبراطورية نفسها التي احتضنت اليهود والمسلمين الذين فرّوا من محاكم التفتيش في إسبانيا في القرن الخامس عشر. وبلغ الأمر حينها بالسلطان العثماني، بايزيد الثاني، حد إصدار فرمان (مرسوم) يتعلق باليهود الذين لجأوا إلى الدولة العثمانية، للنجاة بأرواحهم من الاضطهاد الإسباني.
يبقى السؤال الأهم الذي يتجاهله كل المهتمين بالمأساة الأرمنية: ما حدود مسؤولية الجمهورية التركية اليوم عن تركة الإمبراطورية العثمانية؟ بمعنى آخر، هل فعلا تركيا اليوم هي الوريث الشرعي للدولة العثمانية؟ وفي المقابل، لماذا لا يحتفظ التاريخ بتجربة إمبراطورية بنت مجدها بلا عنف؟ ثم أليس تاريخ الإمبراطورية الأميركية وقبلها البريطانية تاريخ مذابح وإبادات في حق كل الشعوب التي رفضت الخضوع لسطوتها؟ ثم لماذا يكلف ماكرون ورفاقه أنفسهم عناء النبش في التاريخ العثماني والمذابح ضد الإنسانية على مرمى أعينهم في سورية وفي اليمن.
صفوة القول أن فرنسا تصر على استغلال الأحداث التاريخية سياسيا، وتسمح لرجال السياسة باتخاذ قراراتٍ متعلقةٍ بأحداث تاريخية. وهذا قد يكلف دبلوماسيتها الكثير، وخير مثالٍ على ذلك الأزمة الممتدة بين الرباط وباريس طوال سنة 2014، والتي كانت مكلفةً للجانب الفرنسي (الأمني والاستخباراتي تحديدا) بسبب توقف التعاون بين البلدين.
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
E5D36E63-7686-438C-8E11-321C2217A9C8
محمد طيفوري

كاتب وباحث مغربي في كلية الحقوق في جامعة محمد الخامس في الرباط. عضو مؤسس ومشارك في مراكز بحثية عربية. مؤلف كتاب "عبد الوهاب المسيري وتفكيك الصهيونية" و "أعلام في الذاكرة: ديوان الحرية وإيوان الكرامة". نشر دراسات في مجلات عربية محكمة.

محمد طيفوري