الجزائر إلى أين؟

الجزائر إلى أين؟

20 فبراير 2019
+ الخط -
يتساءل كثيرون عن مستقبل الجزائر بعد إعادة ترشيح الرئيس عبد العزيز بوتفليقة، الذي يرأس البلاد منذ عام 1999، لولاية خامسة، على الرغم من مرضه المزمن الذي جعله يختفي عن الأنظار منذ إصابته بالسكتة الدماغية عام 2013. وغالباً ما يأتي التساؤل بصيغة الاستغراب، لأن لا أحد يعرف كيف يمكن لرئيس مقعد، لم يخاطب شعبه منذ ست سنوات، أن يحكم واحدة من أكبر الدول في العالم العربي وفي أفريقيا؟ وما الذي يجعله يتمسّك بترشيحه لولاية خامسة، وهو الذي جاء، أو جيء به، قبل عشرين سنة، لإضفاء نوع من الحياة الديمقراطية على البلد الذي لم يعرف سوى حكم العسكر منذ استقلاله قبل أكثر من نصف قرن؟
وحتى بالنسبة للمختصين في الشأن الجزائري، من الصعب الإجابة عن هذه الأسئلة، لأن عملية الحكم في الجزائر معقّدة ومبهمة، إلى درجة أنه حتى أقرب المقرّبين من دوائر السلطة لا يعرفون ما الذي يحدث داخل مطبخ السلطة ومن الذي يقرّر، لكن الأكيد أنه ليس الرئيس بوتفليقة الذي لا يمكنه، في وضعه الصحي الحالي، أن يكون صاحب القرار الفعلي.
المعروف أن طبيعة النظام الجزائري رئاسية، وكل السلطات مركّزة في يد الرئيس، العاجز عن الحركة وغير القادر على الكلام، على الأقل علناً منذ 2012، فكيف تُدار الجزائر من داخل 
قصر المرادية؟ ومن يُمسك فعلاً بزمام الحكم من وراء الستار؟ ما هو ظاهر أن الرئيس محاط بمقرّبين منه عديدين، ومنهم شقيقه سعيد بوتفليقة، يساعدونه في تدبير شؤون الحكم، لكن الأكيد أن الجزائر لا تدار فقط من قصر المرادية، وإنما أيضاً من دوائر أخرى في مقرات المخابرات والجيش، ومن أوليغارشيا حاكمة تجمع بين الجيش والمخابرات ورجال أعمال نافذين.
بل وحتى داخل هذه المنظومات، لا يُعرف من يحكم ومن يقرّر، وما هي الجهة الأكثر تأثيراً على الأخرى، والأكثر استئثاراً بالسلطة من بين كل الجهات التي تحتكرها، فقد شهدنا، في السنتين الأخيرتين، انقلابات داخلية أزاحت رموزاً كبيرة داخل المنظومة الحاكمة لم يسلم منها كبار رجال المخابرات وكبار جنرالات الجيش وكبار رجال الأعمال، ما يزيد الوضع تعقيداً وغموضاً، حتى بالنسبة لأقرب المقرّبين من دوائر الحكم في الجزائر.
وحتى داخل منظومة الحكم الضيقة، أي مؤسستي الأمن والجيش، لا أحد يعرف ماذا يحدث داخلهما، ففي السنوات الأخيرة شهدتا إقالاتٍ وتسريحاتٍ وتغيراتٍ كبيرة مست كبار رموزهما، ومع ذلك لم يحدث شيء، ففي الجزائر كما يقول المثل الشائع "كل شيء يجب أن يتغيّر حتى لا يتغيّر شيء".
وفي مقابل هذا الغموض في دائرة الحكم الضيقة التي تدير البلاد من وراء ستار، تنتشر لا مبالاةٌ كبيرةٌ بين الجزائريين الذين لم يعودوا يثقون بالحكم الذي يجهلون من هو صاحب القرار الفعلي داخل مربّعه، ونفروا من أحزابهم السياسية، ومن مؤسّساتهم المنتخبة، ومن نخبهم وإعلامهم. ففي مسحٍ أجرته شبكة الباروميتر العربي عام 2017، قال 83% من الجزائريين المستطلعين إنهم غير مهتمين أو غير مهتمين على الإطلاق بالسياسة، في حين أعرب 4% فقط عن اهتمامهم الشديد بالسياسة. وفي المقابل، أظهر البحث نفسه أن أكثر من ثلاثة أرباع الشعب الجزائري يثقون بالجيش والأمن أكثر من أي مؤسساتٍ سياسية أخرى، فالجزائريون يعتقدون أن الفضل يعود إلى الجيش الذي أنهى الحرب الأهلية في تسعينيات القرن الماضي، والطبقة السياسية كما النخبة ينظرون إليه ساتراً يحول دون وصول الإسلاميين إلى السلطة. وهناك اعتقاد كبير لدى مراقبين أجانب كثيرين، ومتابعين للشأن الجزائري، بأن الجيش هو فعلاً من يحكم، ولكن من وراء الستار، فلا يمكن لأي مرشحٍ للرئاسة، بدون تزكيتهم، أن يصل إلى الحكم.
وقد نجح الجيش في تشكيل تركيبة حكم معقدة، تمنحه التحكّم في القرار، وفي الوقت نفسه، تجعله بعيداً عن تحمّل مسؤوليات قراراته، فالحكم في الجزائر عسكري، ولكن بواجهةٍ مدنية، وليس في هذا الاستنتاج جديد، فالمرشح الرئاسي في الجزائر لا يحتاج فقط إلى الشرعية الشعبية، وإنما قبل ذلك إلى تزكية الجيش ومباركته. وقد حول الجيش في الجزائر الفساد إلى 
منظومة حكم قادرةٍ على التكيف مع جميع الأوضاع، عرف كيف ينهي الحرب الأهلية التي لا أحد في الجزائر يجرؤ على طرح السؤال عن مسؤوليته في اندلاعها، ونجح في الانحناء أمام رياح ثورات "الربيع العربي" بشراء السلم الاجتماعي من ريع أموال النفط التي كانت تختنق بها خزينة الدولة، واليوم يجد نفسه أمام حالة غضبٍ، لا يعرف إلى أي حد يمكنه استيعابها، وبأي أسلوبٍ جديدٍ سيبتكره لفعل ذلك.
الأكيد أن الجيش الذي يسيطر بقبضةٍ خانقةٍ على الحياة السياسية، ويتحكّم في الأحزاب والصحافة والنقابات ورجال الأعمال، قادر على أن يعيد انتخاب بوتفليقة رئيساً على الجزائر لعهدة خامسة ومنذ الجولة الأولى. ولكن هل سيحل هذا مشكلات الجزائر، وفي مقدمتها مشكلة الحكم؟ هذا هو السؤال الذي تصعب الإجابة عنه الآن. وحتى التبرير الذي تدفعه حاشية بوتفليقة لترشيحه بأنه يضمن استقرار البلاد، ويحافظ على أمنها ونمو الاقتصاد، لم يعد يجد من يصدقه في الشارع الجزائري الغاضب. وحتى قبل أن يُعلن عن النجاح المؤكّد لبوتفليقة لولاية خامسة، خسرت السلطة التي رشحته مصداقيتها داخل الشارع الجزائري. نعم، الجزائر بلد حذّر من تاريخه العنيف والدموي، ولكن إلى متى سيظل مجتمعها مستسلماً لركوده، وشعبها مقيداً بتاريخها الدرامي؟ فالشعب الجزائري غير مستعدٍ لثورة جديدة، ولا يمكنه الاستسلام لديكتاتوريةٍ لا تنتهي، وسيعرف كيف يجد طريقه ما بين الخيارين. لننتظر ونرى.
D6ADA755-48E0-4859-B360-83AB4BBB3FDC
علي أنوزلا

صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع "لكم. كوم"، أسس وأدار تحرير عدة صحف مغربية، وحاصل على جائزة (قادة من أجل الديمقراطية) لعام 2014، والتي تمنحها منظمة (مشروع الديمقراطية في الشرق الأوسط POMED).