عندما‭ ‬تكون‭ ‬الثورة‭ ‬صواباً ‬وما‭ ‬بعدها‭ ‬فوضى‮‬

عندما‭ ‬تكون‭ ‬الثورة‭ ‬صواباً ‬وما ‬بعدها‭ ‬فوضى‮‬

19 فبراير 2019
+ الخط -
يحدُث‭ ‬بالفعل‭ ‬أن‭ ‬تكون‭ ‬الثورة‭ ‬على‭ ‬صواب،‭ ‬كما‭ ‬وقع‭ ‬مع‭ ‬إسقاط‭ ‬العقيد معمر القذافي في ليبيا (‬مرت ثماني سنوات‭ ‬يوم ‭ ‬17فبراير/ شباط ‬الحالي على‭ ‬رحيله)، ويكون‭ ‬ما‭ ‬بعدها‭ ‬شيءٌ‭ ‬قريب‭ ‬من‭ ‬الشك،‭ ‬إن‭ ‬لم‭ ‬يكن‭ ‬جدول‭ ‬أعمالٍ تضعه‭ ‬الفوضى‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
لم‭ ‬يكن‭ ‬أمام‭ ‬الليبيين‭ ‬سوى‭ ‬أن‭ ‬يقوموا‭ ‬بإسقاط‭ ‬العقيد‭ ‬الذي‭ ‬أغلق‭ ‬عليه‭ ‬نظامه،‭ ‬وتعالى‭ ‬على‭ ‬التاريخ‭ ‬بنظرياتٍ‭ ‬قريبةٍ‭ ‬من‭ ‬الطلسم‭ ‬الأيديولوجي. ‬لهذا،‭ ‬لا‭ ‬يشعر‭ ‬الليبيون‭ ‬بالندم‭ ‬لنهاية‭ ‬العقيد،‭ ‬لكنهم‭ ‬دخلوا‭ ‬منطقةً‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬ممكنا‭ ‬فيها‭ ‬إيجاد‭ ‬التغطية‭ ‬الجوية‭ ‬لانتقال‭ ‬سلمي‭ ‬للسلطة‭ ‬وللديموقراطية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
سقط‭ ‬دكتاتور‭ ‬واحد،‭ ‬وخرج‭ ‬من‭ ‬معطفه‭ ‬الطويل‭ ‬عشرات‭ ‬الدكتاتوريين‭ ‬الصغار،‭ ‬على‭ ‬شكل‭ ‬قادة‭ ‬حربٍ‭ ‬أهلية،‭ ‬وصراع‭ ‬مسلح‭ ‬بين‭ ‬المليشيات. أوجدت ‬الثورة‭ ‬واقع‭ ‬‮ "اللادولة‮".‭ ‬بدون‭ ‬أن‭ ‬تعود‭ ‬إلى‭ ‬ما‭ ‬قبل‭ ‬نظام‭ ‬الجماهيرية‭ ‬القديم.‬ ويبقى‭ ‬الحل‭ ‬طبعا‭ ‬في‭ ‬إيجاد‭ ‬نسيجٍ‭ ‬شبيه‭ ‬بالدولة‭ ‬التي‭ ‬تقود‭ ‬إلى‭ ‬الاستقرار،‭ ‬وإلى‭ ‬ما بعد‭ ‬الحكم‭ ‬الجماهيري‮!‬ هل‭ ‬تستطيع‭ ‬الثورة‭ ‬أن‭ ‬تصل‭ ‬بنفسها‭ ‬إلى‭ ‬الدولة؟ هذا‭ ‬سؤال‭ ‬التاريخ‭ ‬الكبير‭ ‬في‭ ‬منطقة‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬الشامل. و‬لكن،‭ ‬قبل‭ ‬ذلك،‭ ‬هل‭ ‬يمكن‭ ‬إيجاد‭ ‬حدٍّ‭ ‬أدنى‭ ‬من‭ ‬الشروط‭ الموضوعية ‬لانتقال‭ ‬سياسي،‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬يجمع‭ ‬الأضداد‭ ‬حول‭ ‬مائدة‭ ‬للتفاوض‭ ‬الوطني؟ في‭ ‬المشهد‭ ‬الحالي، عموما،‭ ‬هناك‭ ‬ثلاثة‭ ‬معطيات‭ ‬كبرى‭:‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
أولاً، صراع‭ ‬على‭ ‬السلطة‭ ‬بين‭ ‬حكومة‭ ‬الوفاق‭ ‬الوطني‭ ‬المنبثقة‭ ‬عن‭ ‬اتفاقٍ‭ ‬رعته‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬في عام 2015،‭ ‬ومقرّها‭ ‬طرابلس،‭ ‬في مقابل‭ ‬قوة‭ ‬مهيكلة،‭ ‬تسيطر‭ ‬على‭ ‬الشرق‭ ‬الليبي،‭ ‬قائمة‭ ‬بدعم
‭ ‬من‭ ‬البرلمان‭ ‬المنتخب‭ ‬وجيش‭ ‬خليفة‭ ‬حفتر.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
‮ثانيا، ‬أجندة‭ ‬أممية‭ ‬لا‭ ‬تساعد‭ ‬على‭ ‬الانتقال‭ ‬السياسي‭ ‬وضمان‭ ‬الاستقرار،‭ ‬شرطا‭ ‬لعودة‭ ‬السلاسة‭ ‬المؤسساتية،‭ ‬الشيء‭ ‬الذي‭ ‬جعل‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬اليوم‭ ‬في‭ ‬موقع‭ ‬المتابع ‬‮(‬الملاحظ‭ ‬الملتزم‮)‭ ‬أكثر منها‭ ‬القوة‭ ‬القادرة‭ ‬على‭ ‬إيجاد‭ ‬وضع‭ ‬جديد‭.‬ بل‭ ‬الأنكى‭ ‬أن‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬تعطي‭ ‬الانطباع بأنها‭ ‬أسيرة الغموض‭ ‬والتردّد، الأمر ‬الذي‭ ‬يشجع على البحث‭ ‬عن‭ ‬بدائل‭ ‬أخرى،‭ ‬خارج‭ ‬إطار‭ ‬أممي ‭
‬لتغيير‭ ‬موازين‭ ‬القوى‭ ‬على‭ ‬الأرض،‭ ‬والتوجه‭ ‬إلى‭ ‬كسب‭ ‬مساحاتٍ‭ ‬من‭ ‬الميدان‭ ‬المتصارع‭ ‬عليه‬‭.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ثالثا، التنظيم‭ ‬المسلح‭ ‬المحسوب‭ ‬على ‭ ‬‮تنظيم الدولة الإسلامية (داعش‮)‬،‭ ‬حتى‭ ‬وإن‭ ‬سقطت‭ ‬نواته‭ ‬القوية،‭ ‬فقد‭ ‬أفسح‭ ‬لنفسه‭ ‬موطئ‭ ‬قدم‭ ‬في‭ ‬البلد،‭ ‬وتمكن‭ ‬طوال‭ ‬أشهر‭ ‬من‭ ‬السيطرة‭ ‬على‭ ‬مدينة‭ ‬سرت‭ ‬مسقط‭ ‬رأس‭ ‬القذافي،‭ ‬وصار‭ ‬أنصاره‭ ‬يشكلون‭ ‬تهديدا‭ ‬قائما‭ ‬يتجاوز‭ ‬قدرة‭ ‬البلاد‭ ‬نفسها،‭ ‬في‭ ‬غياب‭ ‬دولةٍ‭ ‬قوية‭ ‬يمكنها‭ ‬أن‭ ‬تدبر‭ ‬آفاقه‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
الواضح‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬النقطة‭ ‬بالذات،‭ ‬هي‭ ‬التي‭ ‬تفرض‭ ‬بعضا‭ ‬من‭ ‬التدبير‭ ‬المشترك‭ ‬من‭ ‬طرف‭ ‬دول‭ ‬الجوار‮، فالمغرب‭ ‬الذي‭ ‬دبّر‭ ‬معطيات‭ ‬الربيع‭ ‬العربي‭ ‬في‭ ‬دول‭ ‬الجوار‭ ‬بالطريقة‭ ‬التي‭ ‬جعلته‭ ‬في‭ ‬منأىً‭ ‬عن‭ ‬الصراعات‭ ‬واللااستقرار‭ ‬مطالبٌ‭ ‬اليوم‭ ‬بأن‭ ‬يدبر‭ ‬المصالحات‭ ‬الوطنية‭ ‬الكبرى‭ ‬في‭ ‬الجماهيرية‭ ‬القديمة،‭ ‬وقد‭ ‬أفسح‭ ‬للمفاوضات‭ ‬في‭ ‬مدينة‭ ‬الصخيرات‭ ‬حيزا‭ ‬من‭ ‬عمله‭ ‬الديبلوماسي،‭ ‬ورعى‭ ‬مع‭ ‬الأمم‭ ‬المتحدة‭ ‬اتفاقيات‭ ‬الوحدة‭ ‬الوطنية‮.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
البلد‭ ‬الآخر،‭ ‬تصل إليه‭ ‬شظايا‭ ‬يوميا،‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبح‭ ‬على‭ ‬تونس‭ ‬أن‭ ‬تدبّر‭ ‬عملية‭ ‬مزدوجة،‭ ‬نيران‭ ‬داخلية‭ ‬تجد‭ ‬ملجأ‭ ‬لها‭ ‬في‭ ‬بلدان‭ ‬الجوار،‭ ‬وتدبير‭ ‬انتقالها‭ ‬بما‭ ‬يقوي‭ ‬قدرتها‭ ‬المؤسساتية‮. الجزائر‭ ‬تحتمى‭ ‬بوقائع‭ ‬الحرب‭ ‬العشرية‭ ‬الصعبة،‭ ‬لكي‭ ‬تمنع‭ ‬نفسها‭ ‬ضد‭ ‬ما‭ ‬يعد‭ ‬بجوارها‭ ‬من‭ ‬جديد.‬‭ ‬وعملت‭ ‬على‭ ‬تجميد‭ ‬أي‭ ‬انتقال‭ ‬سياسي‭ ‬أو‭ ‬ديموقراطي‭ ‬في‭ ‬البلاد،‭ ‬لفائدة‭ ‬دفع‭ ‬أشباح‭ ‬الحرب‭ ‬الأهلية‭ ‬التي‭ ‬دارت‭ ‬أطوارها‭ ‬عقدا، في بلاد المليون شهيد.‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬‬
ليبيا اليوم مختبر تاريخي كبير، يشهد على ما يمكن أن تكونه الجغرافية السياسية للدول في شرق المتوسط، وفي تراكب الدولي مع المحلي في ترتيب الوجود التاريخي لشعبٍ ما من الشعوب.
768EA96E-E08E-4A79-B950-D8980EE5911C
عبد الحميد اجماهيري

كاتب وشاعر وصحفي مغربي، مدير تحرير صحيفة الاتحاد المغربية، مواليد 1963، عمل في صحيفتين بالفرنسية، من كتبه "أوفقير .. العائلة والدم.. عن انقلاب 1972"، ترجم كتابا عن معتقل تازمامارت. مسوول في فدرالية الناشرين المغاربة.