خزعل الماجدي في الدوحة

خزعل الماجدي في الدوحة

19 فبراير 2019
+ الخط -
هناك، في منزلِه في بلدةٍ في جنوب هولندا، ينقطع أستاذ تاريخ الحضارات والأديان والتاريخ القديم، الشاعر وكاتب المسرح، العراقي خزعل الماجدي (68 عاما)، للكتابة والتأليف في هذا كله، بعد أن تقاعد من التدريس الجامعي، ويكتفي بالسفر تلبيةً لدعوات لإلقاء محاضرات أو المشاركة في مؤتمرات علمية أو مناسبات ثقافية. من جديد أخباره أنه أصدر أخيرا كتابه "علم الأديان" في أزيد من 600 صفحة، ولتصبح مؤلفاته 88 كتابا (العدد صحيح)، بينها ستة مجلّداتٍ تضم مجموعاته الشعرية التي تزيد عن العشرين، فيما تزيد عن الخمسين كتبُه المتنوعة في حضارات الشعوب القديمة وأديانها وأساطيرها وجغرافياتها. الأمر مذهلٌ بحق، ذلك أنها ليست حالا مألوفا غزارةُ التصانيف والمؤلفات لدى الكاتب الواحد، سيّما من المحدثين والمعاصرين، وإلى هذا العدد الذي سيزيد، متّع الله صاحبنا بالصّحة وطول العمر. ولذلك يجوز الزّعم إن خزعل الماجدي فريدٌ في شأنِه هذا، كما جدّيته العلمية، وأكاديميّته المفرطة، واعتناقه العلم مذهبا له في حياته. والظاهر من عناوين بعض كتبه أنها تتوسل الإحاطة بموضوعاتها بتفاصيل التفاصيل، وأظن أن شخصا يُنجز كتبا من عناوينها "تاريخ الخليقة" و"حضارات ما قبل التاريخ" و"فنون ما قبل التاريخ"، و...، إنما يتحدّى نفسَه، ويختبر ملكاتِه بعنادٍ وجسارةٍ كثيرتيْن.
مناسبة هذا الإيجاز (المخلّ طبعا) أن خزعل الماجدي استُضيف في الدوحة الأسبوع الماضي، لنسمعَه، نحن بعض أصدقائه وقرّائه، في محاضرتيْن منه، وفي أمسيةٍ شعريةٍ وحواريةٍ معه، فيسّرت هذه المناسبات الثلاث إطلالةً متجدّدةً لجمهورٍ يتابعه، ومعنيٍّ باختصاصات مجهوداته المعرفية، على ما يدأب على إنجازه باحثٌ ينتسب إلى نوعٍ شحيحٍ من المثقفين والباحثين العرب، ليس فقط من موقعه مؤرّخا وجوّالا في تاريخ البشرية، بل أيضا لأنه يستكشف من ذلك التاريخ إضاءاتٍ يتسلّح بها في بناء مواقف وتصوّراتٍ واجتهاداتٍ فكريةٍ بشأن الراهن وقضاياه، ولأنه في الوقت الذي يُتقن فيه تحقيب التاريخ، وحضاراته وفضاءاته العتيقة، يلتقط في الأثناء الجسورَ الثقافيةَ التي ربطت بين هذه الحضارة وتلك، وبين هذه الشعوب وتلك. ولا ينحاز لغير العقل، ويضع الدين في موقعه ومكانته حيث فاعليته الروحية المؤكّدة. وفي شغله هذا، والذي يستعين في التدليل عليه بالصور والخرائط، وبالتملّي في الآثار واللُّقى والنقوش واللغات البعيدة، يثير خزعل الماجدي لدى قرّائه ومستمعي محاضراته الرغبة في بعض الجدال والمناقشة، اختلافا هنا واتفاقا هناك. ومع كل ما يحوزُه من معرفةٍ غزيرةٍ في موضوعاته، العويصة والشديدة الاختصاص، فإنه لا يجد حرجا في الإجابة على سؤالٍ ليس في وسعه تقديم إجابةٍ مدققةٍ عليه بأنه سيعمل على التحقّق بشأن ما يقتضيه السؤال من معرفةٍ موثّقة.
بدأ خزعل الماجدي شاعرا قبل أن ينعطف إلى تأليف كتبه الأزيد من الخمسين في السومريات والفن الإغريقي وتاريخ مصر القديم ومعتقدات ما قبل التاريخ و.... ويقول في مقابلةٍ معه في موقع "ضفة ثالثة" في "العربي الجديد" (25/3/2018) إن الشعر هو الذي قاده إلى الأساطير، وإن الحواسّ هي المسؤولة عن الشعر والفن، فيما العقلُ هو المسؤول عن الفكر. وقد أنصتنا في مقهىً ثقافي في الدوحة إلى شيءٍ من صنع حواسّ صديقنا، لمّا قرأ قصائد تنوّعت مناخاتُها ونثريّتها وتفعيلاتُها، بعد أن كنّا قد أنصتنا في قاعةٍ في مبنى وزارة الثقافة إلى تجوالٍ واسعٍ في كل الحضارات (لا مبالغة)، منذ الإنسان الأول إلى اللحظة الراهنة، في استعراضٍ اتصف بحرفيةٍ علميةٍ، ودائما مع تعيين الميْسم الجوهري لكل حضارةٍ، وتحديد البنية الثقافية العامة التي كان التاريخ ينعطف بها من طوْر إلى آخر. وفي المحاضرة الثانية في مركز حسن بن محمد للدراسات التاريخية، طاف بنا صديقنا القادم من هولندا في حضاراتٍ قامت على ضفتي الخليج العربي، ليؤكّد اتصالا ثقافيا عتيقا بين شعوب عربية أقامت على شاطئي هذا الخليج، الشرقي والغربي.. وفي الأمسيات الثلاث، سُعدنا أيضا بالنقاش الحيوي والأفكار الحاذقة، وبتواضع خزعل الماجدي، العارف بما يقوله، وبما يبنيه من معايناتٍ تنظر بالعلم وحده إلى التاريخ.. وإلى الراهن أيضا.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.