الدماغ.. ألدّ أعدائنا؟

الدماغ.. ألدّ أعدائنا؟

19 فبراير 2019
+ الخط -
منذ بدء الخليقة، والإنسانُ يطرح على ذاته معضلة الخير والشرّ، فيحلّل ويفلسف ويدرس، ويناقش نسبةَ كلٍّ منهما في دواخله، متسائلا هل الشرّ هو المرشّح للفوز، أم أن العكس هو الصحيح؟ والسؤالُ هذا المطروح على الديانات والفلسفات والحضارات والعلوم والفنون والآداب التي تعطينا إجاباتٍ متفاوتةً ومتنوّعةً بتنوّع الحقب، وما يقع فيها من أحداثٍ مأساوية، أو سعيدة، تغلّب هذه النظرة على تلك، لا يزال يحظى باهتمام الدارسين والباحثين، كأنّه لم يعرف بتاتا الإجابة الشافية والنهائية التي تلغيه، وتحيله إلى مرتبة ما حُلَ من معضلات.
أخيرًا، أعاد الباحثُ في علم الأعصاب ورئيسُ تحرير مجلّة "الدماغ وعلم النًّفس"، الفرنسيّ سيباستيان بوهلر، التطرّق لهذا الموضوع من زاوية جديدة ومغايرة، إذ أصدر كتابَه "العطل البشريّ" (دار لافون -2019)، وفيه يطرح سؤالا هو، في الآن نفسه، العنوان الفرعيّ للبحث: "لماذا يدفعنا دماغُنا إلى تدمير الكرة الأرضية، وكيف لنا أن نمنعه عن ذلك؟". وبرأيه أنّ المسؤول الأوّل عمّا نؤول إليه ليس الشرّ الكامن فينا، أو جشعنا المفترض، بل هو دافعٌ فيزيولوجيّ بحت، مرتبطٌ أساسًا بتركيبة دماغنا نفسها.
يرى الكاتب أننا نحيا حاليًا مأساةً حقيقيّة، فعددُ السكّان إلى تزايد، والإنتاج والاستهلاك أيضا، الديون وحرارة الأرض ترتفع، إلى ما هنالك من "ازديادات" أخرى، تهدّد البشريّة، وتقودها مباشرةً إلى هلاكها. وعلى الرّغم من أننا بتنا جميعًا واعين لهذا الواقع الأسود، وعلى دراية تامّة به، فليس هناك ما يشير إلى أننا راغبون أو قادرون عن منع أنفسنا من الاستمرار في الدَّرب التي تشكّل خطرا على وجودنا. لماذا؟ يتساءل بوهلر، ما هو ذلك الشيء، السرّ، الذي يجعلنا نمضي بتصميمٍ إلى نهايتنا، من دون أن يرفّ لنا جفن، ومن غير أن نستوعب أو نمتثل لضرورة أن نحيد أو نرتدّ؟
يأهلُ الكرةَ الأرضية اليوم نحو ثمانية مليارات نسمة، وتزايدُ عددِ السكّان في القرنين الأخيرين هو المخيف أكثر من الرقم نفسه، إذ يُلحظ أنه انتقل من مليار إلى ثمانية مليارات خلال قرنين فقط، في حين أن نسبة الازدياد الأكبر حصلت في الخمسين سنة الأخيرة. نحن نتكاثر بنحو 90 مليون نسمة كلّ عام، وقد بلغنا مستوىً عاليًا من التقدّم بفضل الدماغ، ذلك العضو الاستثنائي المكوّن من مائة مليار عصبٍ، وعددٍ مماثلٍ من الخلايا المحيطة التي تحمي الأولى وتغذّيها. الدماغ هو المنتج للوعي، والقدرة على التفكير بذواتنا وبالوجهة التي نرغب بإعطائها لحياتنا. وهو تحفةٌ تقنيّةٌ لا تضاهى، اقتضى تطوّره مئات آلاف السنين، تدعمه جيناتٌ مبرمجةٌ لمواجهة كل أنواع التحدّيات المحيطة، ولقد نجح في جعلنا أسياد هذا الكوكب.
لكن، للأسف، يملك دماغُنا البشريّ جانبه المظلم، المدمّر، الذي، كلّما برع ونجح، اقترب من نهايته الدراميّة، لأنّ في قلبه يوجد عضوٌ صغيرٌ يُدعى "سترياتوم"، يؤثّر على تصرّفاتنا ويديرها. لقد مكّننا الدماغ البشرّي من السعي وراء خمسة مرامٍ هدفها إبقاء جنسنا على قيد الحياة: الأكل، التوالد، السلطة، التوسّع والسيطرة على الآخر. بيد أنّ المشكلة تكمن في وجود هذا العضو في دماغٍ لا يني ينمو ويتطوّر إلى حدٍّ ما عاد معه يكتفي بما ينال من مكافآتٍ لقاء عمله، وهو ما يجعله أشبه بمدمنٍ يريد دومًا المزيدَ، غير قادرٍ على كَبح نزوعِه إلى التمادي والتطرّف. أجل، كان دماغُنا أهمّ عونٍ وحليفٍ لنا بالأمْس، لكنّه في طريقه اليوم إلى أن يصبح ألدَّ أعدائنا، وأشدَّهم خطرًا على الإطلاق.
ويبقى السؤال: هل يمكننا إصلاح هذا العطل لنعود أسياد مصائرنا؟ أجل، يجيب الكاتب، شرط أن يحلّل كلٌّ منا، وبشكلٍ فرديّ، لا على المستوى السياسي والاقتصادي، هذه الآلية الجهنّمية التي تدفع دماغَنا إلى طلب المزيد دوماً.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"