شعب في عُقْب سيجارة

شعب في عُقْب سيجارة

17 فبراير 2019
+ الخط -
لم نكن نأخذ أستاذ الرياضة في مدرستنا على محمل الجدّ، كلّما توعّدنا بصوته المحشرج، ولعابه المتطاير: "الحياة عندي عقْبُ سيجارة.. فلا تجعلوني أقترف جريمة بأحدكم". ربما لأننا لم نكن ندرك مغزى التشبيه جيدًا، ولا العلاقة بين دنيا لم تزل تتفتّح أمام أعيننا، وأشيائها التي لم تستقرّ بعد على حجمٍ معينٍ تأخذه أذهاننا مُسَلّمات، ففي اهتزاز البدايات، كان كلّ شيءٍ يبدو ضخمًا في أعيننا، بما في ذلك عقب سيجارة أستاذ الرياضة.
للمفارقة، أيضًا، وفي خضمّ الاهتزاز الوجودي آنذاك، كان عقب السيجارة، على عكس ما يراه أستاذنا المبجّل، "بداية حياة" لنا، خصوصًا للباحثين منّا عن أعقاب السجائر، فقد كنا نترصّد الكبار حتى ينتهوا من سجائرهم، ويقذفوا الأعقاب، لنلتقطها نحن، ونبدأ ببقايا دخانها فاتحة رجولتنا المنتظرة. أمّا حَمَلة علب السجائر الكاملة من رهطنا، فكنّا نشعر أنهم قادمون من كوكب آخر.
لا أدري لمَ ظلّت عبارة أستاذ الرياضة تتردّد في ذهني، طوال عمري، وكثيرًا ما كنت أستعيدها، في مواقف مشابهةٍ من محطاتٍ مختلفة في حياتي، ولو من باب التندّر والمحاكاة غير المقصودة، غير أني اكتشفت، اليوم، ومع فضيحة "السجائر المقلّدة" التي تفشّى دخانها في أرجاء الأردن كلها، أخيرا، وتصدّرت اهتمام الشعب والحكومة والإعلام، بفصولها الدرامية، منذ لحظة تكشّف خيوطها الأولى، وفرار "بطلها" خارج البلد، ثم القبض عليه وجلبه مخفورًا، وعلى أعوانه من شخصياتٍ وازنةٍ شاركته الجرم، وتستّرت عليه.. اكتشفت اليوم أن هذه العبارة تختصر حياة الأردنيين جميعًا، لا أستاذ الرياضة وحسب.
في الأردن شعبٌ بسيط، يعيش في "عقب سيجارة" على الأرجح؛ ويكتفي من الحياة بخواتيمها، وغاية ما يرجوه هو "الستيرة"، وفق العبارة الدارجة على لسانه، كلما سئل عن أحواله، غير أن سوء طالعه ابتلاه بكومة "حيتان"، تطارد هذه البساطة لتسطو عليها، بين آنٍ وآخر، ففي ما مضى ابتلي بحيتان الغذاء، حين اكتشفت فضيحة السَّمن المهرّب بصهاريج النَّضح المخصّصة لشفط المخلّفات البشرية. وعانى لاحقًا، وما يزال، من حيتان الاحتكار، الذين صعدوا بالأسعار إلى مجرّاتٍ أبعد من قدراته المالية، وعانى من "حيتان الدواء" الذين جعلوا من المرض، وإن لم يتعدّ الزّكام، عبئًا ثقيلًا على حياة المواطن. هذا فضلًا عن الحيتان الرسمية التي تطارد "أعقاب" الرّاتب بالضرائب التي تتناسلُ يوميًّا أزيد من قطط شباط. وفي النهاية، يصبح الفتات نفسه عزيز المنال في حياة الأردني؛ لأن ثمّة من يتربّص به على الدوام.
وتأتي الآن فضيحة الدّخان المقلّد، لتكمل دورة الحيتان، مع تكشّف خيوطِها، ففي محاضر التحقيق الرسمية، يكتشف الأردنيون أنهم لم يكونوا يدخّنون التبغ الأصلي، بل مخلّفاته الممزوجة بالجفت والتراب، وتُباع لهم بوصفها ماركاتٍ أصلية، طوال سنوات. ولا أدري ما الذي يمكن أن تكتشفه الصور الشعاعية في أجساد الأردنيين، إذا قيّض لهم يومًا أن يلتقطوا هذه الصور، أو يخضعوا لتحليل دمائهم المرنّخة بمخلّفات المبيدات التي تمتلئ بها أطعمتهم.
والأنكى أن معظم من يتواطأون مع الحيتان، ويتلاعبون بطيبة الأردنيين وبساطتهم، شخصيات ثقيلة الوزن، تتسنّم ذروة المناصب الرسمية، وأشدّها حساسيةً، منهم رؤساء أجهزة مخابرات، ووزراء، ومديرو جمارك ومكافحة مخدّرات، وغيرهم، بما يطرح تساؤلاتٍ مقلقةً عن طريقة اختيار ذوي المناصب، ومسوّغات تعيينهم، فيما تتفاقم معاناة البسطاء الذين يقعون ضحايا مزمنة لهؤلاء الحيتان، وهي معاناةٌ بدأت تدفع شرائح لا بأس بها إلى هجرة الوطن، والعيش في تركيّا؛ للنجاة بما تبقّى من فلول بساطتهم، و"السّتر" الذي لم يعد متاحًا في بلدهم.
عمومًا، ربما يجدر بي أن أبحث اليوم عن أستاذ الرياضة، لأبلغه أن ذلك "العُقب" الذي بدأنا الحياة به لم يكن مؤخرة حياةٍ كما يدّعي، بل مقدمةٌ لما هو أضأل منه بكثير.
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.