سورية دولة شاذّة

سورية دولة شاذّة

17 فبراير 2019
+ الخط -
في البلاد الشاذة، قلما تعثر على ظاهرةٍ طبيعية. عندما نرى، نحن السوريين، أمراً يسير على نحو منطقيٍّ، نتوقف ونقول: في شي غلط! وتبدأ، على الفور، محاولاتُ إصلاحه والتراجع عنه، ثم نستغفر ربّنا، سبحان مَن لا يسهو ولا ينسى، ونعود إلى شذوذنا سالمين.
لا يوجد إنسانٌ سوريٌّ يتعرّض لامتحانٍ، ويحصل على العلامة التي يستحقها. علامة الصفر، في الجيش العربي السوري تبدأ من ستين درجة. والمتقدّم لمسابقة توظيفٍ يأخذ كميةً من العلامات الزائدة قبل بدء الامتحان، لبعضها علاقةٌ بالمنطقة التي أتى منها، ويُعطى بعضها الآخر لاسم العائلة، وإلى درجة قرابة المتقدّم للامتحان مع بعض المتنفذين، واستعداده لحبّ القادة والدفاع عنهم والتشبيح لهم. وهناك أناسٌ تُشطب كميةٌ من علاماتهم بعد انتهاء الفحص، لأنهم مضروبون بالتقرير الأمني. وفي المحصلة، يحمد جميع المتقدّمين للمسابقة اللهَ سبحانه وتعالى على نعمائه؛ الفائزون يحمدونه، لأنه ألهمهم الولاء للقادة، بعد أن حققوا به آمالهم، وجعلهم يتصدّرون قوائم الناجحين، والخاسرون يحمدونه لأن القضية توقفت عند هذا الحد، فيقول الولد الراسب في الامتحان لأمه، مثلاً: يعني لو أراد أعضاءُ اللجنة أن يأخذوا التقرير الأمني الذي يصفني سلبياً، غامضاً، مشبوهاً، على محمل الجد، ويحقّقوا فيه، ثم أساق، بسببه، إلى معتقلٍ لا يعرف الذباب الأزرق إليه سبيلاً، ما الذي كان يمنعهم؟ تقول الأم: مَاشْ (أي: لا شيء يمنعهم). فيقول لها: إذن؛ الله يُكثر من أمثال هؤلاء الجماعة يا يامْ، والله إنهم أوادم. وقد ينتهي الحوار بأن تقيم هذه الأسرة البائسة، المضروبة بالتقرير الأمني، احتفالاً صغيراً بمناسبة نجاة ابنهم من الاعتقال.
في "مسرح الشوك" الذي ابتكر فكرتَه الفنانُ الراحل عمر حجو لوحةٌ جميلة، فيها رجلٌ يبكي، والآخرون يسألونه عن سر بكائه. وفي النتيجة، يتّضح أنه يبكي، لأن ابنه تقدّم بامتحان أحد المقرّرات، ومعلمه محتارٌ بين أن يضع له علامة أكثر، أو أقل من العلامة التي يستحقها. يسأله أحدُهم: لماذا لا يُعطى العلامة التي يستحقها؟ فيتوقف الرجل عن البكاء، ويُبدي أقصى حالات الدهشة، فهذا الحل لم يخطر له، ولا للمعلم، ولا للتلميذ، ولا حتى لوزير التربية والتعليم.
كانت الدولة السورية "الشاذّة" عضواً في عصبة الأمم، ثم أصبحت عضواً في الأمم المتحدة، ومنتسبةً إلى منظماتها الفرعية، وموقعةً على المعاهدات المتعلقة بحقوق الإنسان، والحيوان، والبيئة، وفيها دستورٌ لا يمكن تعديله أو تغييره إلا بموافقة مجلس الشعب، وكل الدساتير، بضمنها الدستوران اللذان وُضعا لتأبيد حكم حافظ، ثم بشار، ثم السلالة، تحكي عن استعداد الدولة السورية لخدمة الشعب، وحرية الشعب، وحقوقه، وملكيته. وعندنا قوانين عريقة، ممتدة منذ أيام الفرنسيين، واجتهادات لمحكمة النقض تكفي لملء عشرات المجلدات، وأسماء فقهاء قانونيين كبار. وعندنا، في الوقت نفسه، اعتقال، وشحط، وسحل، وتعذيب، وتصفيات، وإقامة أبناء الشعب في المعتقلات عشرات السنين، من دون قيود، أو شروط، وكل سوري يموت لا بد أن يكون خالصاً عمرُه.
الانقلاب العسكري الذي عرف باسم ثورة الثامن من آذار 1963، أعلن قانون الطوارئ والأحكام العرفية، لسببٍ وحيدٍ هو الضرب بيد من حديد على رأس كل من تسوّل له نفسه العبث بمكتسبات الشعب السوري التي تحققت من خلال قيام هذه (الثورة). حافظ الأسد، يوم قام بانقلابه في أواخر 1970، وجد في قانون الطوارئ نعمةً، يجب أن تُباسَ عليها اليد وتوضع على الجبين، فحافظ عليها، وطوّرها، وأضاف إليها محاكم أمن الدولة، وأوجدَ، لأجل تطبيق هذه القوانين الشاذّة، جيشاً عرمرماً من المجرمين والأدوات التي تساعدهم على التنكيل بهذا الشعب الغلبان. واليوم، بعد ثماني سنوات من المذبحة الشعبية الكبرى التي يرتكبها ابنُ حافظ الأسد بحقنا، تأتي الدول التي تحتل سورية، لتضع لنا دستوراً جديداً، وكأنها تقول لمرتكبي المجزرة الكبرى: سامحناكم. وعفا الله عما مضى.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...