بعد هدم سوق العنبريين

بعد هدم سوق العنبريين

17 فبراير 2019
+ الخط -
وكالة العنبريين، أو سوق العنبريين؛ هو السوق الأثري الذي أزيل الأسبوع الماضي، تحت إشراف اللواء إبراهيم عبد الهادي، نائب محافظ القاهرة، وهو السوق الذي بادرت وزارة الآثار في أثناء هدمه، متطوعة، على لسان المشرف العام على مشروع القاهرة التاريخية، مصرحة إن العقار الذي يتم هدمه الآن غير أثري!
يقع المبنى الأثري الذي تم هدمه في قلب شارع المعز؛ أحد أهم شوارع القاهرة التاريخية، مساحته 1250 مـتر،من 106 محل؛ ومرّت عليه حقب وأزمنة تاريخية عديدة؛ كالدول الفاطمية والأيوبية والمملوكية والعثمانية، حيث يرجع تاريخ إنشائه إلى ما يزيد على 900 عام، فقد تم البدء فيه عام 517 هجرية، وكان في بدايته سجنا ثم تحول إلى سوق للعطور والعنبر. ومن هنا أخذ اسمه الحالي، سوق العنبريين، وفي عهد محمد علي، أصبح وكالة رائعة الجمال، وكان وقفا ليعقوب بك صبري أحد مساعدي الباشا، وهو آخر من قام بتجديد المكان والإضافة له، وقبل أن يتوفى يعقوب بك أوصى بربع المكان لزوجته والثلاثة أرباع جعلها وقفا خيريا، وفي خمسينيات القرن العشرين، تم بيع جزء من المبنى؛ فأصبح مملوكا لورثة زوجة يعقوب بك والمشترين الجدد وورثتهم.
وفي عام 2000، بدأ الملاك الجدد ومسؤولو حي الجمالية بالعمل على اعتبار المبنى آيلا للسقوط، وفي عام 2005 نشب بالسوق حريق ضخم، استمر رجال الأطفاء يحاولون إخماده بخراطيم المياه ثلاثة أيام متواصلة، مما أثر سلبا على سقف العقار وجدرانه، خاصة أن الأسقف كانت من الخشب. وما يؤكد أن الحريق (ربما) كان مدبرا، هو صدور قرار الحي رقم (14) لسنة 2005 أي بعد الحريق مباشرة؛ والذي نص على هدم المكان بشكل كامل، لكن الأهالي رفضوا القرار، واستمروا في التقاضي، فصدر بحقهم حكم برقم 2086 يمّكنهم من ترميم العقار، هذا في الوقت الذي رفضت فيه الوزارة تسجيل المبنى كأثر بتاريخ 6 أبريل 2016، وعندها قام الأهالي برفع شكاوي إلى النيابة الإدارية التي حققت في الأمر؛ وأعلنت من جانبها تشكيل لجنة على أعلى مستوى من أساتذة كلية الآثار، ومن آثريين متخصصين لوضع تقرير عن السوق، وانتهت اللجنة إلى أنّ المواصفات الخاصة بالمباني الأثرية متوافرة في هذا المكان. وبناء عليه انتهت التحقيقات بعدد من القرارات والإجراءات، من ضمنها توصية وزارة الآثار بالقيام بتسجيله كأثر؛ حتى يتم الحفاظ عليه كجزء مهم من هوية مصر، لكن وفي 22 يوليو 2016، أصرّت اللجنة الدائمة للآثار الإسلامية والقبطية على رفض تسجيل العقار، ولما سعى الأهالي نحو إصدار قرار آخر يسمح لهم بترميم المبنى إلى أن يتم تسجيله كأثر، صدر بحقهم قرار آخر في عام 2007 برقم 2032 يمكنهم من الترميم، بل وأيدت محكمة الاستئناف في عام 2009 قرار الترميم. وفي عام 2012 تكررت محاولات الهدم بصورة أخرى عندما تم إغراء أحد الملاك من قبل رجل أعمال فباع المبنى الأثري، وحينها أعلن رجل الأعمال نيته هدم المكان وتحويله إلى مول تجارى، وظل الأهالي يعترضون على قرار الهدم ومنعه؛ حتى جاء يوم 11-2-2019، فهدمته الحكومة على رؤوسهم؛ فضاع الأهالي، وضاع الأثر!
وبعد تأكيدي على أن كل الآثار المصرية، بكل حقبها التاريخية، هي تراث يجب الحفاظ عليه؛ فهل بإمكان وزارة الآثار أن تبين لنا لماذا أصرت على عدم تسجيل هذا الأثر وغيره، وبررت عمليه هدمه، في الوقت الذي تسعى فيه بكل طاقتها نحو ترميم التراث اليهودي؛ كما جاء على لسان وزير الآثار، خلال اجتماع لجنة الثقافة والإعلام والآثار بمجلس النواب يوم الـ 9 من ديسمبر 2018، حين قال: "أنا مش هستني حد يقولي خد فلوس ورممه لأنه أولوية عندي زي التراث الفرعوني والروماني والإسلامي والقبطي"، بالرغم من أن التراث اليهودي في مصر لا يضم أكثر من عشرة معابد؛ كلها عبارة عن مباني صغيرة لا يتجاوز عمر أكثرها عن مائة عام، وهي مهجورة منذ زمن طويل.
وفي النهاية، دعوني أقول: لمّا كان سوق العنبريين يقع ضمن 600 أثر آخر في شارع المعز، وهو أهم شوارع القاهرة التاريخية؛ التي هي أصلا منطقة أثرية مدرجة على قائمة التراث العالمي منذ عام 1979 ضمن ست مواقع مصرية أخرى، فهل بعد إقدام السلطات المصرية وتجرؤها على هدم أثر بهذه القيمة، ستقوم منظمة اليونسكو بالتحرك العاجل من أجل محاسبة من قام بهذه الفعلة النكراء تجاه أثر يقع ضمن موقع تراثي مدرج بالمنظمة، علّها تعمل على الحفاظ على ما تبقى من آثارنا بعد دمرناها بأيدينا؟
حسين دقيل
حسين دقيل
حسين دقيل
باحث متخصّص في الآثار، دكتوراه في الآثار اليونانية والرومانية من جامعة الإسكندرية في مصر. العبارة المفضّلة لديه "من لم يهتم بتراثه ويحافظ عليه فلا مستقبل له".
حسين دقيل