كامل قسطندي.. أمثولة المهاجر الفلسطيني

كامل قسطندي.. أمثولة المهاجر الفلسطيني

15 فبراير 2019

كامل قسطندي.. طرازٌ رفيعٌ من الكفاح والمثابرة والإبداع

+ الخط -
بصمت وخَفَر، غادرنا كامل قسطندي فجر الحادي عشر من فبراير/ شباط الجاري في بيروت. لم ينتظر عيد الحب مثلاً، فمن أحبّها رحلتْ قبله، ومن أحبّه وعرف فضله وعلمه وإبداعه تفرّق مثل زهر الأقحوان بين الأصابع العابثة لصبيّةٍ مغرمةٍ وشقية. هكذا يرحل النبلاء دوماً؛ يتطايرون مثل غبار الطلع في جميع الاتجاهات، بعدما أنجزوا مهمتهم الجميلة في تلقيح الأذواق والأفهام بالجمال الخالص. توفي كامل قسطندي (أبو نبيل) بعد هدأةٍ طويلةٍ وألم مكتوم. كان غضوباً حين يجري الكلام على الفلسطينيين في لبنان. مرّة قال لي وهو يكاد ينفجر من الغيظ: اسمع يا صقر. أنا أحمل الجنسيتين البريطانية واللبنانية أيضاً، وأنا مسيحي في بلد كان يُعتبر إلى زمن قريب بلداً مسيحياً، وهذا امتيازٌ قلما تيسر لفلسطينيين كُثُر في هذا البلد. ومع ذلك، ما زلت مهمشاً في لبنان لأني فلسطيني.
كامل قسطندي علم كبير من أعلام الشتات الفلسطيني، وطرازٌ رفيعٌ من الكفاح والمثابرة والإبداع. تدرّع بروح المهاجر، وخاض مغامرة البحّار الإغريقي، وكتب في غمار حياته المتلاطمة صفحاتٍ ثرية بالأمثولات الراقية، وعاش زاهداً منصرفاً عن زخارف الأيام الجارية.
.. له في تاريخ الفن مكانة متقدّمة، منذ أن ظهر في إذاعة الشرق الأدنى إلى جانب محمد الغصين وصبري الشريف وغانم الدجاني وصبحي أبو لغد وأحمد جرّار وعبد المجيد أبو لبن ورشاد البيبي ونجاتي صدقي وغيرهم. كان شغوفاً بأن يروي لنا كيف بهره المذياع، منذ أن كان في العاشرة، وكم كان كَلِفاً بأسئلةٍ طفوليةٍ مثل: أين يجلس المذيع؟ كيف يصل الصوت إليه؟ وحين شاهد استديو الإذاعة، أول مرة، ركع على الأرض، وتمنّى لو أن الله يُتيح له فرصة العمل في ذلك المكان الساحر.
في أحد الأيام، بينما كان يمرّ في أحد شوارع مدينة يافا، رأى اثنين من أصدقائه يتناولان 
البوظة، فسألاه عما يفعل، فقال لهما: إني أركب الشاحنة التي تُقِل العمال إلى معسكر الصرفند الإنكليزي، وهناك أجلس عند الباب، وأسجل أسماء العمال، ولا شيء غير ذلك.. فعرض عليه أحدهما الالتحاق بوظيفةٍ في إذاعة الشرق الأدنى. وفي صباح اليوم التالي، كان يحضر إلى محلة "الجبلية" حيث تنتصب الإذاعة، ليقابل مسؤولاً بريطانياً، وهذا المسؤول أحاله على محمد الغصين الذي سأله: هل تحب أن تعمل في قسم المحاسبة أم في قسم الموسيقى؟ فأجابه بأنه لا يفهم في معالجة الأرقام، فأرسله إلى صبري الشريف مدير القسم الموسيقي الذي جعله منسق أغانٍ، وقال له: إن عملك محصور في اختيار الأسطوانات، وتسليمها إلى المذيع المكلف إذاعتها على الهواء. وهذه المهمة كان يشغلها عبد المجيد أبو لبن، قبل أن يصبح مذيعاً.
بدأ كامل قسطندي يُعد برنامج "حديث الصباح"، ومدته ربع ساعة، واستمر يعمل، في الوقت نفسه، في تنسيق الأغاني. وبين الفترتين، جلس مرة ليكتب نصاً مسرحياً بعنوان "جوبيتر: رحلة إلى القمر"، ولمّا قرأه محمد الغصين حوّله من تنسيق الأغاني إلى قسم الدراما. وفي عهد الثلاثي كامل قسطندي (الدراما) وغانم الدجاني (الموسيقى) وصبحي أبو لغد (المنوعات)، صارت إذاعة الشرق الأدنى أهم إذاعة عربية في أربعينيات القرن المنصرم، واستمرّت في مكانتها المتقدمة حتى توقفها في سنة 1956.
في أوائل سنة 1948، انتقل كامل قسطندي من يافا إلى القدس، تجنباً لهجمات الهاغاناه على العرب وأحيائهم. وفي منتصف مارس/ آذار 1948، وجد نفسه ينتقل مرغماً مع عدد من زملائه إلى قبرص بحراً من ميناء حيفا. وفي مدينة ليماسول، استقبله رشاد البيبي، ليقله في اليوم التالي إلى منطقة بوليميديا حيث المقر الجديد لإذاعة الشرق الأدنى. وهناك بدأت رحلة الاغتراب والمنفى التي استمرت حتى سنة 1956 حين استقال جميع مذيعي الإذاعة احتجاجاً على العدوان البريطاني – الفرنسي – الإسرائيلي على مصر. وفي تلك الأثناء، وبالتحديد في 1949 افتتح مكتباً في شارع ماسبيرو في القاهرة، وكلف المخرج والإذاعي المعروف سيد بدير إدارته. وفي هذا الاستديو، كان كامل قسطندي يسجل التمثيليات التي يخرجها على أسطوانات، ومنها مسرحيات يوسف وهبي التي حوّلها إلى تمثيلياتٍ إذاعية. ويروي كامل قسطندي أن يوسف وهبي نظر إليه في أول لقاء باستخفاف قائلاً: إيه الشامي ده إلّي قد كده؟ وفي الاستديو كان يكسر نحو خمس أسطوانات يومياً، لأن يوسف وهبي لم يكن يتقيد بتوجيهات أبو نبيل الذي لم يتجاوز حينذاك الخامسة والعشرين.
بعد استقالته من إذاعة الشرق الأدنى، عرض عليه الثري الفلسطيني، بديع بولس، إنشاء مصنع
 أسطوانات في بيروت، لكنه اقترح إنشاء مؤسسة للإنتاج الإذاعي. وبالفعل، ظهرت على يديه "الشركة اللبنانية للتسجيلات" LRC، وكان من بين أركانها سميح الشريف للإدارة، وصبري الشريف للإنتاج الموسيقي، وكامل قسطندي للإنتاج الدرامي، وتعاون الثلاثة مع الأخوين رحباني وفيروز وتوفيق الباشا وزكي ناصيف وفيلمون وهبي ووديع الصافي وعفيف رضوان ونزار ميقاتي، وأنتجوا الليلة الأولى من ليالي مهرجانات بعلبك في سنة 1957 التي أبهرت جميع من شاهدها. وفي ما بعد، تلقى دعوةً من سعيد فريحة صاحب دار الصياد، ليعرض عليه تأسيس فرقة الأنوار الفنية. وأُسست الفرقة بالفعل في سنة 1959، وقدّمت موسمها الأول الذي حمل عنوان "حكاية لبنان". وفي ذلك الموسم، غنى وديع الصافي "لبنان يا قطعة سما"، وقدّمت نجاة الصغيرة أغنيتها "أيظن". وفي سنة 1960 بادر إلى تأسيس "مؤسسة الأعمال الفنية"، وراح ينتج الأعمال الإذاعية، لتغطية فترات البث في الإذاعات العربية المتكاثرة، واستمر في العمل مع فرقة الأنوار حتى سنة 1962. ويمكن القول إن كامل قسطندي كان المنتج الأول لبرامج القسم العربي في هيئة الإذاعة البريطانية في بيروت، وكان له فضل كبير جداً في نشر أعمال الفنانين والمسرحيين والكتاب والمثقفين عبر الإذاعة البريطانية والإذاعات العربية، وكان صانعاً للذوق والثقافة، وراعياً للفن، خصوصاً في لبنان الذي نقلت إليه النكبة الفلسطينية فرقةً موسيقيةً كاملةً كان من بين أعلامها حليم الرومي وفرح الدخيل وعبد الكريم قزموز وميشال بقلوق ورياض البندك وإحسان فاخوري وحنا السلفيتي وفريد السلفيتي.
.. رحل أبو نبيل كما يرحل الغرباء. ظل فلسطينياً نبيلاً، ونديّاً مثل أوراق العشب، وصلباً كصخور البحر، ومترحّلاً كشراع في "مينا يافا". وعاش في أواخر أيامه معتزلاً الناس إلا القلائل منهم، بعدما سبقته في الرحيل زوجته فيوليت ناصر، وابنته سامية الزوجة السابقة للشهيد محمد عباس زيدان (أبو العباس)، فكان آخر الكبار في التاريخ البهي للإذاعيين والمخرجين والموسيقيين الفلسطينيين من عيار علي مراد وعصام حماد وسميرة عزام وراجي صهيون ومحمد غازي.