في مصر.. نقدر

في مصر.. نقدر

15 فبراير 2019
+ الخط -
تأتي مناسبة أيام عظيمة مرت على مصر الثورة منذ 25 يناير/ كانون الثاني وحتى 11 فبراير/ شباط 2011، لتؤكد الثمانية عشر يوما التي استغرقتها احتجاجاتٌ متصاعدةٌ أن الشعوب قادرةٌ على أن تعبر عن إرادتها، في إطار احتجاج شامل، تعبر فيه عن عدم رضاها، وتؤكد على مطالبها الأساسية، إرادة الشعوب تبدأ شرارة التغيير، والبقية تأتي على عاتق من يتولى ذلك التغيير، بأدواته المختلفة وقدراته المتنوعة، وتوافقات قواه الأساسية، وحمل كل ما يتعلق بمطالب هذه الشعوب، فيضعها على لائحة اهتماماته، وفي صدر مطالباته. يقول بعضهم إن الدور الآخر يجب أن تقوم به النخبة، ولكن النخبة قد تخذل شعوبها وتتباطأ عن تلمس ضروراتها، وتبدو في أحيانٍ كثيرة متخلفة عن تلك الإرادة الشعبية وما يمثلها. ومن العجيب حقا أن تدّعي النخبة نتيجة فشلها المتكرّر وإدراكاتها القاصرة، وعدم تكافؤ فعلها مع حقيقة الحالة الثورية، بمعطياتها وموجباتها، فإنها قد تلقي التهمة على الشعوب، وربما تتبنّى الخطاب نفسه للمستبد من أن هذا الشعب جاهلٌ يفتقر إلى الوعي، وغير مؤهل للثورة، أو التغيير أو الديمقراطية، وهي من فرط استعلائها تقوم وتحترف دورا وصائيا، لا تتهم فيه نفسها أبدا، على الرغم من أن أخطاءها واضحة للعيان، لا يمكن أن تخطئها عين خبير.
هذه المناسبات التي تتعلق بحجم الحركة الشعبية، وتأثيرها المباشر إنما يشكل بحق معنى الإرادة الشعبية. في ثمانية عشر يوما، استطاع هؤلاء أن يقدّموا إجابات واضحة قاطعة، بشأن إشكالاتٍ كثيرة طرحت على الساحة منذ قرنين، كانت الإجابة أن الشعوب تمثل مصلحة عامة واحدة ومتكاملة، وأن الشعوب يمكن أن تلتقي على مطالب أساسية، لا يمكن لأحد أن يشكك 
فيها أو يساوم عليها، ومن ثم كانت تلك الشعارات التي هي، في حقيقة الأمر، وجب ترجمتها إلى استراتيجيات، "العيش والكرامة الإنسانية والحرية الأساسية والعدالة الاجتماعية". في هذا الوقت، وحينما أتى يوم 11 فبراير/ شباط في العام 2011، والذي أعلن فيه حسني مبارك المخلوع تنحيه كان يعني، ضمن ما يعني، أن هذا الشعب قادر على أن يفرض نفسه ضمن معادلة التغيير، بحيث يصير الرقم الصعب الذي لا يمكن تخطيه، كأن هذا الشعب، باحتجاجاته ومطالبه، وبما حققه من إجبار رأس السلطة المخلوع مبارك، ضرب ضربة البداية لمعركة التغيير الجذري المطلوب، كان يقول بأعلى صوت "نقدر". وهنا لا بد أن نؤكد أن الثورة تستطيع أن تحدث التغيير والتأثير، لو أن هناك عقولا استطاعت أن تكون على مستوى هذه الحالة الثورية، وتعبر عن الإرادة الشعبية، وتمثل المطالب الشعبية الجذرية الكبيرة وتتلقفها، إنها الثورة التي قالت بأعلى صوت "نقدر".
ولكن هؤلاء المضادين للثورة عبّروا عن مسار حاولوا فيه حصار هذه الثورات، وعمليات التغيير، في محاولةٍ لاسترداد مواقعهم، وذلك بمساعدة قوى إقليمية وقوى دولية، تقوم في استراتيجياتها على ترسيخ حال الأمر الواقع، بما تسميه الاستقرار في المنطقة، وتتحدث عن فعل الثورات إنه الفوضى بعينها. بدا لهؤلاء أن يقوموا بكل عمل لمحاصرة الثورات، وخطتها في التغيير، بل وتشويهها والانقلاب عليها، في إطار الإمساك بمفاصل المشهد، بما تمتعت به من ضخ المال القذر في ميادين الممارسة السياسية الحقيرة والدنيئة التي تقف في مجابهة أمال الشعوب، ورغبتها في التغيير والتأثير. ومن هنا، تصير المعادلة واضحة بين فعل "نقدر" الذي يمثل الإرادة الشعبية، والتي تمثل حالة الاحتجاج الكبرى، إيذانا بعملية تغير جذري، وبين هؤلاء المضادين للثورة الذين يشكلون مصانع الاستبداد ومجامع الطغيان، والمحافظة على أمرٍ واقع في ظل استقرار زائف ومزعوم. المعركة إذا بين معسكر الثورة والتغيير والشعوب ومعسكر المضادين للثورة والمستبدين وذوي المصالح الدنيئة التي يتحالفون فيها مع أهل السلطة والسلطان.
إنها المعركة الحقيقية التي ستستمر في الحالة تدافع في صور وأشكال لمعارك شتى. في 
البداية، قامت الثورات لتؤكد القدرة على التغيير. والآن حاصر هؤلاء المضادون للثورة تلك الثورات، وقاموا بتشويهها، في محاولةٍ للنيْل منها، والانقلاب على تلك الثورات في أشكال كثيرة، لتحويل حال هذه البلاد التي قامت فيها الثورات العربية، إما إلى حالة حرب أهلية أو تهجيرات قسرية، أو ما يمكن كذلك الحديث عنه من استهداف الشعوب إذلالا وإمراضا وتعبيدا واستعبادا وإفقارا وتجويعا. وفي بعض هذه الثورات، والتي قام هؤلاء بالانقلاب عليها، في شكل انقلابات عسكرية، يريدون أن يعمّموا طبعتها الانقلابية على معظم بلاد ثورات البلاد العربية، وعلى أطرافٍ تدخلت باسم المساعدة، وهي في الحقيقة قامت بتأزيم المواقف، واحتلت هذه البلاد واستعبدت أهلها. هكذا أرادت الثورة المضادة أن تواجه القدرة بحالة طغيانية فاشية واسعة، لا تتورع فيها عن إبادة شعوبٍ أو تهجيرها أو الانقلاب على كل أمل يتعلق بالتغير فيها، ليقول هؤلاء، بأعلى صوت أيضا، إنهم سيقتلون من يقدرون، وسيئدون كل إرادة وكل تعبير عن تغيير أو مطالبة بالتأثير.
ومن ثم تتداخل المشاهد في الميدان، حينما نرى مع مشاهد ذكرى ثورة يناير و11 فبراير التي مثلت بحق التعبير عن ارادة الشعوب " نقدر"، وبين الثورات المضادة التي تقوم بكل ما من 
شأنه ترسيخ كل مكامن الاستبداد، وترسيخ كل مسالك الاستعباد. وهنا سيأتي مستبد مصر، والمنقلب على مسار ديمقراطي، ليؤبد سلطانه، تحت عنوان التعديلات الدستورية. هكذا، يتحدث المستبد ليل نهار عن انتخاباتٍ ودستور، ولكنه كل يوم، وكطقس يومي، يدوس ذلك بالأقدام، ويسحق كل من يطالب بأي أمرٍ يتعلق بالتغيير ويؤمن بمعادلاته. إنها الحقيقة الكبرى التي تجعل من تحالف المضادّين للثورة والتغيير، والمقيمين لمصانع الاستبداد والاستعباد، والمنتهكين كل أمر يتعلق بحقوق الوطن والمواطن، حلفا خطيرا يقوم بذلك كله مؤبدا أركان طغيانه، ومعامل فاشيته، وسياسات استبداده وظلمه. وتظل ثورات الربيع العربي، بكل زخمها، وبما لوحت به من فتح أبواب التغيير تدقّ مضاجع هؤلاء، ليقوموا بمحاولاتهم في مواجهة أي أصواتٍ تنادي بالثورة أو التغيير. ما بال السيسي يتلهى بالعبث بالدستور، ليبدل في نصوصه، ليؤبد وجوده حتى العام 2034، وهو من وضع دستور 2014، واصطنعه على عينه في لجنة الخمسين، بل هو من وافق على تحصين هذه المواد التي يطالب بتغييرها، ولكن المستبد لا عهد له، ولا يعترف بالعقود، ولا يوفي بالعهود، ولكنه اعتاد على الغدر بكل أمرٍ يفتح الطريق لأبواب تغيير، ويواجهه بكل ألوانٍ من طغيانه من قتل واعتقال ومطاردة.
فإذا كان المستبد والثورة المضادة يحاولان أن يمارسا كل استخفافٍ بإرادة شعب، ألا يستطيع الشعب، مرة أخرى، أن يحمل الشعار نفسه الذي رفعه من قبل في ثورة يناير "نقدر"؟ ألا تستطيع الشعوب أن تواجه هذا المستبد وخطته، في مناسبات عدة، ومنها التعديلات الدستورية، فيقفون صفا واحدا لفضحه ومواجهته، ضمن عمليات تدريبٍ على الاحتجاج بعد أن فرض كل ما يتعلق بتأسيس جمهورية الخوف التي أراد لها أن تدوم.. اصطفوا صفا واحدا، وقوموا قومة واحدة، وواجهوا المستبد، وانفضوا الخوف. وأقول لكم بحق إننا كما استطعنا أن نفعل ونقدر في 25 يناير، حتى أرغمنا الطاغية على التنحّي في 11 فبراير، فإننا نستطيع أن نعيد الكَرّة، ونقول بأعلى صوت "نقدر"، إذا ما عرفنا السنن، وتعلمنا الدروس واصطففنا بوعي، واتفقنا كما اتفقنا من قبل، وانتصرنا على كل مصادر الفرقة والاستقطاب. نعم في مصر رافعة التغيير في المنطقة "نقدر".

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".