مسرحية سياسية في الهواء الطلق

مسرحية سياسية في الهواء الطلق

12 فبراير 2019
+ الخط -
تقدّم فصول أحداث مقتل الصحافي السعودي، جمال خاشقجي، عرضًا في الهواء الطلق للسياسة الدولية، فهي ترفع الغطاء، وتقدم مثالًا لما يمارس في الخفاء، حيث تظهر ألاعيب السياسة وانتهازها الفرص، واستخدامها الأحداث للاستفادة منها أو جعلها مناسبةً للتخلص من مشكلة ما. 
تقدّم الجريمة بحد ذاتها مشهدًا مثيرًا للإعلام. صحافي سعودي يدخل قنصلية بلاده في إسطنبول فلا يخرج منها، ثم ينكشف الأمر عن جريمةٍ، ويبدأ الضجيج بالارتفاع، وتبدأ أحداثها بالتكشف جزءًا بعد آخر، على نحو مشوّق. وصفُ أحداثها المروّعة وبعض الحوار الذي دار وكلمات خاشقجي أنه لا يستطيع التنفس، ثم حكاية التقطيع بالمنشار، واختفاء أجزاء الجثة، وبقاء موضعها غير معروف، أو أنه معروف ولا يعلن، وربما يتم الإعلان عنه عند الحاجة، وحكاية المتعهد المحلي، ثم انكشاف علاقاته بالسعودية، والإسراع لتنظيف المكان لإخفاء أي أثر للجريمة، وكاميرات المراقبة التركية المتربصة بكل ما دخل إلى القنصلية وما خرج منها، ومحاولات الإنكار السعودي ثم الاعتراف تحت الضغط. ثم السؤال الذي بقي من دون جواب عن سبب اللجوء لهذه الطريقة المنشارية في القتل، على الرغم من وجود أساليب أخرى تبعد أي دليل عن القاتل الحقيقي... كل هذه الأحداث تمثل روايةً بوليسيةً نموذجيةً للجذب الإعلامي.
حين وقوع الجريمة، أصيب الجميع بالدهشة، لكل هذه الأهمية التي اتخذها مقتل شخص واحد، في حين أن مئات آلافٍ قتلوا على مدى ثماني سنوات في سورية واليمن وليبيا، وقُتل قبلهم في العراق كثيرون، ولم تأخذ تلك الأهمية، ولم يحدث كل هذا الضجيج، ولم يسعَ أحد لمعاقبة أحد. وقبل تقطيع خاشقجي بالمنشار، كم من معارض سعودي وغير سعودي اختطف وقتل واعتقل واختفى. ولم نسمع عنهم شيئًا. ونحن نعلم أن كل هذا يحدث والعالم كله يعلم، ولكن تبقى أدلته وأخباره مخفيةً ومرتكبوه مجهولين. بينما هنا جريمة موصوفة، اعترف مرتكبها بفعلته مرغمًا بعد إنكار، وبعد أن تمت مواجهته بأدلةٍ لم تنشر للعامة بعد، وإنما اطلعت الخاصة عليها. يكاد 
من أعطى الأمر بالقتل والمسؤول عن الجريمة يقول ها أنذا، وثمّة إثباتات لم ولن تعلن، لأن إعلان ذلك سيفسد اللعبة على الجميع، فهم يريدون الثمن، ولا يريدون رأس من أعطى الأمر بالقتل. ولكن يتم التهديد بنشر تفاصيل أكثر، والمطالبة بتحقيق دولي لإخراج القضية من أيدي السعودية، ولكن هذا التحقيق لن يبدأ، لأن لا مصلحة لأحد بذلك.
بدأت تركيا التي حدثت الجريمة على أراضيها، ويبدو أنها تمتلك معلومات وأدلة كثيرة، نشر أخبار الجريمة تباعًا، والإعلان عن امتلاكها أدلة، من دون أن تنشرها، إذ لا مصلحة لها في نشرها، لكنها أطلعت قادة دول كبرى على ما لديها، في نوع من الضغط لتغيير السياسة السعودية السلبية تجاه تركيا. وأرادتها، ومن جهة أخرى، فرصةً للتقارب مع الرئيس الأحمق ترامب، وخصوصا في قضيتي سيطرة قوات "البيدا" التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في شمال شرقي سورية، وهي تتبع حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيًا، واعتقال القس الأميركي، أندرو برانسون، المعتقل منذ 2016 في تركيا بتهمة التجسس، ومساعدة منظمات إرهابية، وقد أحدث اعتقاله أزمة حادة بين تركيا والولايات المتحدة، فأطلقت تركيا سراحه بهذه المناسبة، وحدث تقارب.
كان ترامب، الذي يشبه سلوكه سمسار عقارات بلا أخلاق، ويسعى إلى استغلال كل حدثٍ لصالحه، ويقيس كل شيء بكمية النقود، سعيدًا بحدوث الجريمة، فقد رفع الثمن الذي يطلبه من ولي عهد السعودية، محمد بن سلمان، من دون الوصول إلى إدانة هذا الحاكم الشاب. ومنطق تصريحات ترامب أن مصالح الولايات المتحدة مع السعودية وصفقاتها الكبيرة أهم من تحقيق العدل في جريمة قتل شخص واحد أيا كان. ولكنه يرفع حدّة تصريحاته، ويقترب من بن سلمان إن تردّد الأخير في تلبية أحد طلباته الكثيرة غير المعلنة، أو المعلنة، مثل تمويل قوات "البيدا" الكردية في شمال سورية، ثم يعود بتصريحاته ليبعد الشبهة عن بن سلمان بعد تلبيتها. ولكنه مثلاً لم يضغط عليه لإنهاء أزمة مجلس التعاون التي أحدثها حصار قطر، فمشكلات الآخرين بمنطق السمسار مصدر فائدة له، وفرصة لمزيد من الابتزاز.
محمد بن سلمان، الساعي إلى المُلك بأي ثمن، والذي يُشتبه بأنه هو من أمر بهذه الجريمة، يسعى إلى فعل كل شيء للخروج من هذه الورطة، فقد اعترف بأن الجريمة وقعت في قنصلية بلاده في إسطنبول، ووجهت السعودية التهم، واعتقلت 15 "متهمًا"، وبدأت بإجراء محاكمة على الطريقة السعودية، لا علاقة لها بالحق والعدل، فمن نفذ الجريمة لا يُدان لأنه نفذها بحكم وظيفته، وبطلب من رئيسه. وأحكام هذه المحكمة سيقررها البازار السياسي الدولي المفتوح لدفع "دية" دم خاشقجي. ولا مانع لدى محمد بن سلمان من إيقاع عقوبة السجن لبعض السعوديين ممن خدموه بإخلاص، وحتى الإعدام لآخرين، ليكونوا كبش فداء عنه، كما يسرع أمام أعيننا إلى تقديم التنازلات لنيل رضى ترامب، والأهم رضى إسرائيل، فتبدأ التسريبات عن مشاريع تقارب بين السعودية وإسرائيل، وإسرائيل بارعة هي الأخرى باستغلال الأحداث. والأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، كما تركيا، يضغطان مطالبين بتحقيق دولي محايد، 
ولكن لهاتين المنظمتين سلطة معنوية لا تأثير يذكر لهما.
إنها مسرحية سياسية بامتياز، وبازار مفتوح في الهواء الطلق، وتقدّم هذه المسرحية مع بازارها فرصةً لمشاهدة حالة مشخصة لتعامل السياسة الدولية مع جريمةٍ أو حدث ما، وتقدم مثالًا حيًا لدارسي السياسة، ولنا نحن المواطنين في هذا العالم المتوحش الذي يحكمه الأقوياء، الذين يطبقون شريعة الغاب كلما احتاجوا لها، دفاعًا عن مصالحهم، بل وجرائمهم مثل غزو العراق، فالسياسة الدولية لا يوجهها الحق والعدل أولاً، بل توجهها المصالح أولًا، وفق القاعدة الشهيرة "الغاية تبرّر الواسطة".
ما إن تهدأ أخبار الجريمة المنشارية، حتى تعود لترتفع متصدّرة وسائل الإعلام، وهذا عائد إلى عوامل عدة، منها مدى تحقيق اللاعبين في الأزمة غاياتهم، وقد حقق بعضهم مكاسب كبيرة أو صغيرة. وأصبحت القضية مثل ليمونة تم عصرها، وربما لم يعد بها الكثير من العصير. وقد لا نسمع عنها مستقبلاً أو قد يعود بعضهم إلى النفخ فيها إن احتاجها، من أجل مزيد من ابتزاز بن سلمان الذي توقعه تصرفاته غير المسؤولة في مشكلاتٍ ترتد على المملكة ككل.