عن دروس أزمة التعليم في تونس

عن دروس أزمة التعليم في تونس

12 فبراير 2019

احتجاج لمعلمي الثانويات في العاصمة تونس (6/2/2019/الأناضول)

+ الخط -
كما توقع كاتب هذه الأسطر في مقال سابق في "العربي الجديد" (2/ 2/ 2019)، تنفّس التونسيون الصعداء، بعد أن توصلت الحكومة والمنظمة النقابية المركزية (الاتحاد العام التونسي للشغل) إلى اتفاقٍ من شأنه أن ينهي أزمة الثلاثة أشهر التي شلت 80% من مؤسسات التعليم الثانوي والإعدادي التي يؤمها 900 ألف تلميذ، وجدوا أنفسهم خارج المدارس، محرومين من حقهم الدستوري في التعليم والمعرفة، ما جعلهم يخرجون إلى الشارع ثائرين محتجين، معبرين عن رفضهم صراعا نقابيا سياسويا هم ضحاياه.
ومن جهة أخرى، أبعد الاتفاق بين الحكومة والنقابة المركزية شبح الإضراب العام في الوظيفة العمومية، والمؤسسات شبه العمومية الذي كان مقررًا خلال شهر فبراير/ شباط الجاري. وكانت دوائر الأزمة التي عاشت على إيقاعها عودة العلاقة بين الحكومة والنقابة المركزية مرحلة اللاعودة، وصفها الملاحظون بأنّها "تهدّد انهيار التوازنات الهشة التي تحكم مرحلة الانتقال الديمقراطي، في ظل تعاظم المخاوف من سنة دراسية بيضاء، ومن إضراب عام جديد في قطاع الوظيفة العمومية"، خصوصا أن التونسيين لم يتجاوزوا بعد مخلفات الإضراب العام لسنة 1978 الخطيرة التي راح ضحيتها ضحايا كثيرون.
لقد تمت تسوية النقاط الخلافية بين الطرفين (كما توقع الكاتب)، والأهم اليوم عندنا محاولة بلورة قراءة تحليلية، رصدا للدروس التي أحدثتها هذه الأزمة المستفحلة بين الحكومة والنقابة، والتي كادت نتائجها أن تكون كارثية على مختلف الأصعدة.
لقد كشفت الأزمة على المستوى النقابي عن استفاقة وعي التيار الإصلاحي الوطني الذي يقود المنظمة النقابية منذ تأسيسها، والذي عوّد التونسيين على مراعاة مصلحة البلاد، وسلمها الاجتماعي، قبل كل اعتبار، جاعلا التهديد بالإضراب القطاعي أو العام مجرّد ورقة ضغط على الحكومة، عبر آلية الحوار في إطار الإمكانات المتاحة.
لقد واجه هذا التيار الوطني الإصلاحي داخل المنظمة النقابية خلال هذه الأزمة تيارا آخر مضادا، سماه بعضهم التيار النقابي الفوضوي، المطلبية النقابية عنده ليست غاية في حد ذاتها، بل وسيلة لإسقاط النظام. ويقول المختصون في أدبيات النقابات وتاريخها إن هذا التيار موجود في كل النقابات، ولكن تأثيره يبقى ضعيفا. وفي الحالة النقابية التونسية، فإن وزير التربية، حاتم بن سالم، كان قد اتهم الجبهة الشعبية (قطب حزبي يساري معارض) بأنها تقف وراء الأزمة ناقلة الملف السياسي وتجاذباته إلى المؤسسة النقابية والتربوية، وذلك طبعا من خلال ممثليها داخل الهياكل النقابية في المنظمة المركزية، وكذلك صلب الهيكل المسير للجامعة العامة للتعليم الثانوي (نقابة مركزية).
لقد أعطى هؤلاء النقابيون (الفوضويون) صورة للمنظمة النقابية المركزية (الاتحاد العام التونسي للشغل) لم يألفها التونسيون الذين بادر منهم تلاميذ وأولياء إلى الاحتجاج رافعين شعارات تدين قيادة الجامعة التونسية للتعليم الثانوي. ولهذه الأسباب، وغيرها أخذ أمين عام 
المنظمة على عاتقه مسؤولية قيادة التفاوض مع الوفد الحكومي. وتقول مصادر خاصة إنه "وضع تاريخ المنظمة النقابية وتاريخه الشخصي على المحك"، من أجل الوصول إلى حل يرضي، ولو جزئيا، مطالب سائر الموظفين، ولا يرتهن الدولة وإمكاناتها. وقد نوّهت هذه المصادر كذلك بجهود وزير الشؤون الاجتماعية، محمد الطرابلسي، ذي المرجعية النقابية، والذي قاد الوفد الحكومي في ماراثون التفاوض، من أجل التوصل إلى حلٍّ يرضي جميع الأطراف، وبالتالي يخرج البلاد من النفق المسدود. والمؤمل كذلك أن تنأى النقابة المركزية مستقبلا عن الشكل المتوحش للاحتجاج، والمتمثل خصوصا في مقاطعة الامتحانات وإيقاف الدراسة، ما يحتم إيجاد مدونة سلوك عامة داخل المنظمة النقابية، تقول مصادر خاصة "سيأتي موعدها خلال أسابيع".
حكومة يوسف الشاهد، وإنْ لا تزال في مرمى الأصدقاء قبل الأعداء، على غرار حزب نداء تونس، ورئيس الجمهورية الذي لم يغفر للابن الروحي (يوسف الشاهد) خروجه عن جلباب أبيه، وإعلانه بعث حزب جديد (تحيا تونس) لخوض غمار الانتخابات المقبلة يعني طي ملف الماضي، والمضي وحيدا مع مريدين جدد إلى آفاق أخرى. هذه الحكومة قد جعلتها الأزمة تلتفت إلى ضرورة تفعيل المجلس الوطني للحوار الاجتماعي، حتى يكون الإطار الأمثل مستقبلا للتفاوض، تلافيا لمأزق التفاوض الوحشي والتطرّف النقابي. كما جعلتها هذه الأزمة تعيد حساباتها على مستوى المعادلات والتمثلات وسيلتها للانتقال الديمقراطي.
وإجمالا، خروج التلاميذ وأوليائهم إلى الشارع وثورتهم على الحكومة والنقابة جعلا الجميع يراجعون مفاهيم الديمقراطية ومنظومة الحقوق، ما يحتم إعادة النظر إلى الدولة ومؤسساتها والمنظمة الشغيلة وهياكلها المركزية والقطاعية في طرائق تعاطيها مع الشأن الاجتماعي في تمثل تام ووطني للمسؤولية.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي