استعادة.. صدمة إسرائيل في 25 يناير

استعادة.. صدمة إسرائيل في 25 يناير

12 فبراير 2019
+ الخط -
من الخطأ التعامل مع الثورة باعتبارها حدثا عاديا، نلوم أنفسنا أو بعض الفاعلين السياسيين على أخطائه، فالثورة بركان غضب ينفجر فجأة، مرعبا الكثيرين، خصوصا حلفاء الاستبداد. ولما انتفضت شعوب بعض الدول العربية في 2011 كان ذلك نتاج عقود من الظلم والقمع واضطهاد المعارضين، والذين ما زالوا يعانون في كل ما يتعلق بإدارة التغيير الثوري وتبعاته. كما ألقت الثورة الرعب الشديد في قلوب داعمي الاستبداد في الإقليم وفي العالم، ما يجعلهم يتصرّفون بطرق فجة لم نعتدها من قبل.
وهذا يعني أن قراءة المشهدين، الداخلي والخارجي، بدقة مهمة ضرورية ما زالت مطلوبة لفهم طبيعة التحدّي الذي واجهته قوى الثورة، وكيف أنه لم يكن تحديا سهلا أو عاديا في أي حال، ولو أيقنت القوى السياسية والجماهير ذلك لأعادت تقييم أدائها، وتوقفت عن جلد الذات.
ولعل موقف إسرائيل من انتفاضة المصريين في يناير/ كانون الثاني 2011 هو أبلغ تصوير للزلزال الذي أحدثته الثورة على الساحة الخارجية، والرعب الذي ألقته في قلوب خصومها الدوليين، حيث وقفت إسرائيل، على الرغم من كل قوتها، مصدومة مرعوبة. كما كشفت ردود فعلها عن مدى تداخل سياساتها مع سياسات الاستبداد في مصر، بشكلٍ يستحق الرصد بعناية.
فور انطلاق شرارة ثورة المصريين في 25 يناير، فرض رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، حظرا إعلاميا على أعضاء حكومته، ومنعهم من التعليق على ما يحدث في مصر.
وذلك في أول علامة على صدمة إسرائيل مما يحدث، وشعورها بأن شيئا كبيرا وغير اعتيادي يحدث. ولما استطاعت وسائل إعلام دولية الوصول إلى بعض أعضاء حكومة نتنياهو، وجدتهم
 في حالة رفض وإنكار، لكن وزيرا، رفض ذكر اسمه، قال لصحيفة واشنطن بوست في 28 يناير: "نعتقد أن النظام (مبارك) قوي بما يكفي لتخطّي ما يحدث مستخدما مؤسساته الأمنية".
واختلط الصمت والإنكار الإسرائيليان بشعور بالعجز والقلق، حيت صرح مسؤول آخر لصحيفة نيويورك تايمز في 27 يناير: "في الحقيقة، ليس لدينا الكثير الذي يمكننا فعله" للتأثير على ما يحدث في مصر. وبعد 28 يناير، بدأ مسؤولون إسرائيليون يتحدّثون للإعلام الأميركي عن مخاوفهم، حيث قال أحدهم لصحيفة نيويورك تايمز في 31 يناير: "بالنسبة لأميركا، مصر حجر أساس لسياستها في الشرق الأوسط.. بالنسبة لإسرائيل، مصر هي المحور كله". كما بدأ سيل من التحليلات الدولية يتدفق عن معنى ما يحدث في مصر بالنسبة لإسرائيل؟ ولماذا يشعر الإسرائيليون بـ"الصدمة والرعب"، وفقا لتعبير توماس فريدمان ("نيويورك تايمز"، 2 فبراير/ شباط)؟
باختصار، السلام مع مصر حيّد أكبر جيش عربي، وأوقف حروب إسرائيل معه، ما مكّن إسرائيل من تغيير بنيتها العسكرية والاقتصادية. فمنذ عام 1979، تمكّنت إسرائيل من تقليل إنفاقها العسكري من حوالي خمس ناتجها المحلي في السبعينيات إلى حوالي 8% فقط حاليا، وفقا لسفير إسرائيل السابق لدى واشنطن سالاي مريدور (يو إس إيه توداي، 2 فبراير). كما تمكّنت من التركيز على أهداف أمنية أقل أهمية، مثل حزب الله في لبنان، وحركة حماس في غزة والضفة، أو أهداف بعيدة كإيران.
ويؤمن الإسرائيليون بأن التزام مصر بالسلام يرتبط بالنظام الحاكم، وليس بالشعب المصري، أو كما قال سفير إسرائيل السابق في مصر، إيلي شاكيد: "الناس الوحيدون الملتزمون بالسلام هم الموجودون في دائرة مبارك الداخلية. ولو كان الرئيس المقبل لمصر ليس منهم. فسوف نكون في مشكلة" (نيويورك تايمز، 3 يناير). هذا بالإضافة إلى تقدير الإسرائيليين تعاون مبارك الكبير معهم في مختلف السياسات، بما في ذلك حصار غزة غير الإنساني.
وهذا يعني أن انتفاضة المصريين لم تكن بالنسبة للمسؤولين الإسرائيليين مجرّد تهديدٍ بالقضاء على نظام مبارك، المتعاون في مختلف القضايا، لكنها كانت تهديدا لأهم أركان استراتيجيتهم الأمنية على الإطلاق، ولنمط حياة الإسرائيليين نفسه، فأي تهديد لمعادلة "كامب ديفيد" يعني إعادة بناء استراتيجية إسرائيل الأمنية، وأوجه إنفاق ميزانيتها بشكل كبير.
لذا ذكر نتنياهو، في أول تصريح له بعد الأحداث، وتحديدا في 30 يناير، أن إسرائيل "تتابع بقلق" ما يحدث في مصر، وذلك بالتزامن مع تحرّكه على الساحة الدولية، وخصوصا 
الأميركية، مطالبا إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما بدعم مبارك، مهاجما معارضيه، بما في ذلك معارضين ليبراليين كمحمد البرادعي (نيويورك تايمز، 31 يناير).
أما الإخوان المسلمون فقد حازوا على النصيب الأكبر من نقد نتنياهو، والذي ركّز في حديثه مع المسؤولين الغربيين على التخويف من السيناريو "الإيراني"، وصعود ما سمّاه "بالإسلام الراديكالي" واختطافه التغيير. كما تحرّك لوبي إسرائيل على المنوال نفسه، مثيرا الشكوك بشأن مستقبل مصر، ومدى التزام "الإخوان" بالديمقراطية. وبمرور الوقت، بدا واضحا توتر الحكومة الإسرائيلية، حيث اشتكى مسؤولون أميركيون من كثرة اتصال نظرائهم الإسرائيليين بهم بخصوص مصر (نيويورك تايمز، 5 فبراير).
أما زعيمة المعارضة الإسرائيلية في ذلك الحين، تسيبي ليفني، فقد طالبت في مؤتمر هرتزيليا الأمني، في أوائل فبراير/ شباط 2011، بمنع "الإخوان" من المشاركة في الانتخابات (جيروزاليم بوست، 8 فبراير). وزار وزير الدفاع الإسرائيلي في ذلك الحين، إيهود باراك، واشنطن، محذرا من "الفوضى في مصر". ولم يخفّف من قلق إسرائيل إعلان مبارك عن تعيين عمر سليمان نائبا له، على الرغم من تفضيل إسرائيل عمر سليمان خليفة لمبارك، وفقا لبرقية حكومية إسرائيلية تعود إلى عام 2008 كشف عنها موقع ويكيليكس.
وزاد من قلق إسرائيل انقسام إدارة أوباما وغموضها، حيث دعم أوباما وبعض مستشاريه الشباب رحيل مبارك. ودعم نائبه جوزيف بايدن ووزيرة الخارجية هيلاري كلينتون ودوائر الأمن والاستخبارات بقاء مبارك حتى سبتمبر/ أيلول2011. وذكر تقرير لصحيفة لوس أنجلوس تايمز (12 فبراير)، أن المسؤولين الإسرائيليين ظلوا، حتى آخر لحظة، يتوقعون بقاء مبارك في السلطة حتى سبتمبر على الأقل. وبعد يوم من مغادرة مبارك الرئاسة، أصدر نتنياهو بيانا لم يهنئ فيه المصريين برحيل مبارك، كما فعل قادة كثيرون في العالم، واكتفى بالترحيب بإعلان المجلس العسكري التزامه باتفاقية السلام بين البلدين.
وهكذا، تكشف دراسة موقف إسرائيل من ثورة يناير قضايا كثيرة بالغة الأهمية لكل المعنيين بالتحول الديمقراطي في مصر، فإسرائيل لم تكن في أي حال داعمة لثورة المصريين، كما يروّج إعلام النظام أحيانا. وهي في الحقيقة داعم صلب للنظام الاستبدادي نفسه، وقد فاجأت الثورة إسرائيل وصدمتها، كما صدمت مختلف الداعمين الإقليميين والدوليين للاستبداد في مصر.
ولم تقف إسرائيل مكتوفة الأيدي تجاه أحداث الثورة، أو ترضخ لدوائر الغرب الليبرالية التي دعمت حق المصريين في التظاهر والديمقراطية. حيث عادت إسرائيل الثورة المصرية بقوة ووضوح، وأطلقت مقولات سياسية عديدة، معادية للثورة، تناغمت مع أفكار أساسية ردّدها نظام مبارك ثم الانقلاب العسكري. وفي مقدمة تلك المقولات الربط بين الثورة والفوضى، والراديكالية، والتشدد الديني، ووصم "الإخوان المسلمين" بالتشدد. في المقابل، دعمت إسرائيل مبارك، ثم الدوائر المقربة منه، مثل عمر سليمان، ثم المجلس العسكري، باعتبارها الدوائر المرتبطة تاريخيا باتفاقية السلام مع إسرائيل، وفلك العلاقات المصرية الأميركية الداعم لتلك الاتفاقية.
أخيرا، توضح الوقائع السابقة حجم الزلزال الذي مثلته ثورة يناير لإسرائيل. وكيف حاولت هذه الانقضاض على الثورة من يومها الأول. وكيف أن الثورة واجهت عداواتٍ هائلة، ربما لم يلتفت إليها بالشكل الكافي، أو في الوقت المناسب، المواطن العادي أو نشطاء يناير. ولهم في ذلك ألف عذر. ولكن تبقى قراءة التاريخ ورصده بأمانة مهمةً ضروريةً للتعلم من الماضي وتراكم الخبرات.