حملات العصفورة

حملات العصفورة

11 فبراير 2019

(Getty)

+ الخط -
حفلت وسائل الإعلام المصرية، في الأيام الماضية، بأخبارٍ متتاليةٍ عن موضوعاتٍ أقل ما توصف به أنها تافهة، إن لم تكن سخيفة ومخالفة للذوق العام. إضافة إلى حملاتٍ إعلاميةٍ على وسائل التواصل الاجتماعي، تخاطب أحياناً شريحةً مجتمعيةً بعينها، مثل حملة مقاطعة شراء السيارات. أو تستهدف طقساً دينياً أو سلوكاً مجتمعياً مرتبطا بقيم ثقافية وروحية، مثل دعوة المرأة المصرية إلى خلع الحجاب.
وقد انتشر، قبل أيام، فيديو يعرض مشاهد عري لفنانتين مغمورتين، بحضور شخص قام بالتصوير وظهر بصوته فقط. وسريعاً، ربط الإعلام المصري الفيديو باسم المخرج المصري خالد يوسف. وبعد أيام، تم توقيف الفنانتين وجرى التحقيق معهما. وراحت المواقع والصحف تتابع أخبار التوقيف والتحقيقات بشكل متزامن ومتشابه تماماً. بل وصل الأمر إلى التطابق في اقتباساتٍ نُسبت إلى إحداهما، تتهم فيها خالد يوسف بسلوكياتٍ مشينةٍ تقترن باختياراته الممثلات اللاتي يعملن معه.
وبعيداً من التكييف القانوني للواقعة وملابساتها، من شأن تلك التغطية المُنسقة، والرسائل المُضَمنة فيها، أن تترك لدى المتلقي انطباعاً شديد السلبية عن المخرج. وتؤكد، أو بالأحرى تجدّد، سقوطه أخلاقياً أمام الرأي العام.
في واقعة أخرى، خرجت وسائل الإعلام المصرية تؤكد حدوث اشتباك عنيف بين رئيس نادي الزمالك مرتضى منصور، ونائب رئيس اتحاد كرة القدم أحمد شوبير، في أثناء اجتماع لرؤساء الأندية مع مجلس إدارة اتحاد كرة القدم. وكادت كل العناوين تتطابق في وصف ما جرى بأنه "عراكٌ بالأيدي" وضربٌ متبادل. ورغم نفي بعض الحضور حدوث اشتباكٍ فعلي بالأيدي، وأن الموقف اقتصر على تراشق لفظي، إلا أن سيلاً من الأخبار تدفق حول واقعة "الضرب" التي لم تحدث، وكأنها حقيقة. وراح إعلاميون يُجوّدون الأداء ويستحضرون معارك مرتضى وشوبير السابقة ليزيدوا التغطية تشويقاً.
بالتوازي مع الواقعتين، حدث تصعيد مفاجئ للتوتر المكتوم بين النادي الأهلي ونادي بيراميدز الذي يملكه رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ، على خلفية رغبة الأخير في تعديل جدول مباريات الدوري، وإصرار الأهلي على تطبيق الجدول المقرّر مسبقاً.
قد تكون أزمة الأهلي وبيراميدز مقدمة لإلغاء مسابقة الدوري المصري، وربما تكون مشكلة فيديو خالد يوسف متصلةً مباشرةً بموقفه الرافض تعديل الدستور. ولكن يظل التفسير الأشمل والأقرب إلى تلك الموجة من "الفرقعات"، في نظرية "شوف العصفورة"، أي الإلهاء عن قرار مهم أو خطوة جديدة تتحسّب السلطات لردود الفعل إزاءها. وهو ما ينطبق بالفعل على المشهد الحالي، حيث بدأت عجلة التعديلات الدستورية في الدوران. وهي مسألةٌ تحتاج تأمين أجواء مواتية لتمريرها بسلاسة، بعيداً عن تركيز المصريين في تفاصيلها، وما قد تفضي إليه من تداعيات. ولكن الشريحة العظمى من المجتمع المصري ليست معنيةً بتلك الحملات الإلهائية، لأنها غير معنية أصلاً بالدستور، لا بالتعديل ولا من دونه، فغالبية الشعب مطحونة في دوامة البحث عن الرزق يوماً بيوم.
أما الفئة المعنية بتلك التعديلات، ولها موقف إزاءها، سلباً أو إيجاباً، فتتمتع بدرجةٍ معتبرةٍ من التعليم والثقافة، وتجيد استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، وأوعى من أن تنساق وراء "العصفورة". ولن يكون للحملات التليفزيونية وضجيج المعارك على الشاشات وفي المواقع الإخبارية تأثيرٌ يذكر عليها، خصوصا أنها خبرت جيداً استخدام طريقة "شوف العصفورة" في مرات كثيرة سابقة.
إذا كان المصريون بين واعٍ ولاهٍ، فإلى مَن إذن تتوجّه تلك "العصفورة"؟ ربما تدرك دوائر القرار في مصر حدود اهتمام المواطنين العاديين وانخراطهم في الشأن العام. وكذلك عدم جدوى تلك المعارك الصوتية في إلهاء المواطنين المُسيسين. لكن الدرس القاسي الذي خلفته ثورة يناير وخطورة تعديل الدستور وأهميته لمستقبل سلطة الحكم واستقراره كفيلان بجعل أجهزة الحكم قلقة ومتوجّسة من كل شخص مهما صغر، ومن أي شيء وإنْ بدا بلا خطر.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.