بمناسبة رصاصة محمد بن سلمان

بمناسبة رصاصة محمد بن سلمان

11 فبراير 2019
+ الخط -
طوال الأشهر الأربعة الماضية، منذ انكشاف جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي المروّعة، في القنصلية إياها في إسطنبول، ثم اعتراف الرياض بحدوثِها، لم تُفرج السلطات السعودية عن أي معتقل رأي، أو داعية، أو أي ناشطة، من السجون، بل استمرّت عمليات الحبس، فلم يُحدِث الضغط الإعلامي والحقوقي والسياسي الكثيف الذي واكب كشف تفاصيل اقتراف الجريمة أثراً على أداء هذه السلطات، بل لم تنقطِع، في الغضون نفسها، الأنباء عن تعذيبٍ شديدٍ وإذلالٍ قاسٍ يتعرّض لهما بعض المحبوسين من أهل الرأي في السجون. ومن البلاهة أن يُؤخذ على محمل الجد إنهاء احتجاز كثيرين من بين 381 متهماً، من أمراء ورجال أعمال ومسؤولين سابقين، من فندق الريتز كارلتون (وغيره)، بعد تحصيل أكثر من مائة مليار دولار منهم، أو يُحسب إنجازاً حقوقياً.
لم يُبادر الحكم في العربية السعودية إلى أي خطوةٍ، ولو رمزيةٍ، باتجاه تحسين المشهد الحقوقي في البلاد، وإفساح مساحةٍ لمقادير من حريات التعبير والقول، أو أقلّه التجاوب مع النداءات الدولية التي تُطالب بتعاملٍ آخر مع أصحاب الرأي بشأن قرارٍ هنا أو هناك، غير الحبس والتنكيل والاحتجاز، وغير المحاكمات التي تبعث على الفزع، لفرط طوطميّتها وغرائبها. لم يتغيّر شيءٌ أبداً، فلم تُحدث زوابع الكونغرس، ولا ضجيج "واشنطن بوست" و"نيويورك تايمز"، ولا مطوّلات "الجزيرة"، ولا تسريبات تركيا المتتابعة، ولا كل الغضب في كل الأرض، دافعاً لدى صانع القرار في العربية السعودية إلى "عفوٍ" عن أحد، ولا حتى إلى قليلٍ من "تسامحٍ" دعائي، كالذي يصنعه حلفاء هؤلاء في أبوظبي.
في الوُسع أن يجتهد واحدُنا، ويقول إن ثبات محمد بن سلمان على عقيدته القتالية ضد أصحاب الألسنة الطويلة (والقصيرة أيضاً) في غير أمر، بعد افتضاح هوْل جريمة قتل خاشقجي، على ما كانت عليه قبله، يعود إلى أن مستشاري الرجل (ما أخبار تامر السبهان؟) أفهموه أن اللفّ والدوران، واللعب على شراء الوقت، والإكثار من "الكلام الساكت" (بالتعبير السوداني)، أدواتٌ نافعةٌ في مواجهة كلام الجرائد في أميركا وإجماع مجلس الشيوخ هناك على تحميل بن سلمان المسؤولية عن واقعة القتل في القنصلية. وإنْ يلزم أن تُوازي هذه الأدوات علائم أسفٍ على محيّا عادل الجبير على خاشقجي، معطوفةً على مقدارٍ من رباطة الجأش لدى هذا الوزير، وهو ينفي ثم ينفي ثم ينفي. ويلزم أيضاً استدعاءُ نجلي الصحافي المقتول، ليمثُلا أمام خادم الحرمين وولي عهده، فيقبلا التعازي إياها. وثمّة محاكمة المتهمين على ما قارفوه في القنصلية، وهي محاكمةٌ شفّافة، بدليل طلب الإعدام على خمسة، في أولى جلساتها، المُعتمة، والتي لا يعلم الجن الأزرق ماذا يحدُث فيها. وإلى هذا كله، ثمّة الغبطة بالأهم، ظلُّ دونالد ترامب الذي يغطّي محمد بن سلمان، ويأنفُ من القيل والقال في موضوعٍ يراه هذا الرئيس شبع أخذاً وردّاً، ولتّاً وعجناً، سيّما وأن "السخاء السعودي أهم من العدالة".
يحدث هذا في الداخل السعودي. أما في تركيا، فثمّة عنادٌ وإصرارٌ باقيان لدى عقل الدولة فيها على بلوغ القصّة إلى منتهاها، بغير اللفلفة المتّبعة في الرياض، وإنما بتعيين المسؤوليات كاملةً عن الجريمة، ومحاسبة مرتكبيها كلهم. وفي الولايات المتحدة، لا نفع من لعبهم هناك على الوقت، فالشغل لم يتوقف ولن يتوقف، والأجهزة تتابع، والصحافة لا تملّ، وأساطين الكونغرس مغرمون بالمناكفة والنبش في واقعة القنصلية من بدايتها إلى خواتيمها التي لم تكتمل بعد. أما الصحافة، فهذه "نيويورك تايمز" تكشِف، أخيراً، أن رصاصةً قال محمد بن سلمان إنها قد يلزم إطلاقُها على جمال خاشقجي إذا لم يرعو، ولم يتوقّف عن نقد أداء الحكم في المملكة، بل وإذا لم يعد إلى البلاد. كان الرجل يدردش مع مستشارِه وصديقه، سعود القحطاني (أين هو؟) قبل عامٍ من استخدام المناشير لإزهاق روح الصحافي المهذّب. ومن شأن هذا "التسريب" أن يسند إلحاح الكونغرس على ترامب، من أجل العمل سويّاً على صيغةٍ أخرى في التعاطي مع حالة محمد بن سلمان، الحالة التي لا ترى أن فضيحة قتل خاشقجي توجِب تعاملاً أخلاقياً ورفيعاً وفروسياً مع سلمان العودة ولجين الهذلول وغيرهما.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.