فنزويلا "أقرب" من السودان!

فنزويلا "أقرب" من السودان!

02 فبراير 2019
+ الخط -
من المفارقات اللافتة أن الحدث الفنزويلي عرف اهتماماً كبيراً لدى الجمهور العربي يفوق، بما لا يقاس، الاهتمام الذي جرى إبداؤه حيال الاحتجاجات السودانية الواسعة التي سبقت ما جرى في فنزويلا بنحو خمسة أسابيع، وما زالت مستمرة وتتفاعل على المستوى السياسي، مع خروج ثلاثة أحزاب من الائتلاف الحكومي، ومع الزيارات التي أداها الرئيس، الفريق عمر البشير، لعواصم عربية، ومع سقوط زهاء أربعين ضحية، واعتقال مئات من المتظاهرين وقيادات الأحزاب، ثم الإفراج عن أغلبيتهم، من دون أن تنطفئ جذوة الاحتجاجات غير المسبوقة في حجمها وزخمها ومداها الزمني والجغرافي. وعلى الرغم من أن الحدث السوداني حظي بتغطيةٍ إعلامية واسعة لدى عشرات المنابر العربية ذات الأهمية، إلا أن ذلك لم يُترجم بتفاعلٍ عربي شعبي واضح مع المجريات هناك. وقد نأت أغلبية الأحزاب والتيارات السياسية في المشرق ودول المغرب العربي بنفسها عن الخوض في الملف السوداني، خلافا لما حدث في تلك الدولة البعيدة التي تقع على الساحل الشمالي لأميركا الجنوبية.
ولعل من بين الأسباب التي أثارت اهتمام "الشارع" العربي بالحدث الفنزويلي أن اسم هذا البلد 
ليس غريباً عن الذاكرة والمخيال الجمعي، إذ شهد القرنان التاسع عشر والعشرون موجة هجراتٍ عربيةٍ متتاليةٍ إلى فنزويلا، ومنذ السيطرة العثمانية إلى ما بعد وقوع بُلدانٍ، مثل لبنان وسورية، تحت الانتداب الفرنسي ووقوع فلسطين تحت الانتداب البريطاني، ثم الاستيلاء الصهيوني على أرض فلسطين. وتذكر معلوماتٌ متاحةٌ أن ذلك البلد الأميركي الجنوبي يضم نحو 600 ألف ممن هم من أصول عربية، أكثر من نصفهم من اللبنانيين. فيما النسبة الكبيرة الباقية هي من السوريين أساساً، مع عدد أقل من الفلسطينيين. وقد ظلت إجراءات الهجرة إلى هذا البلد أسهل مما عليه في بقية دول أميركا الجنوبية. وقبل أزيد من ثلاث سنوات، سمحت فنزويلا لحاملي جواز السفر الفلسطيني بدخول البلاد بغير تأشيرة. هكذا، ومع العدد الكبير من مهاجري بلاد الشام إلى ذلك البلد، فإن اسم فنزويلا يظل مألوفاً لدى كثيرين من الجمهور. أما البلد الشقيق السودان، فإن ما هو مألوف حياله اسمه بالدرجة الأولى، وأسماء بعض زعمائه الحاكمين، أما ما عدا ذلك فهو "غامض" لدى أكثرية الجمهور، باستثناء الفئات المثقفة وبعض الشرائح المسيسة التي تتابع ما يجري في عالمنا العربي بصورة عامة، ومنه بالطبع السودان.
وعلى الرغم من أن السودان ليس بعيدا ذلك البعد الجغرافي، وعلى الرغم من أنه جزء من المشرق العربي، إلا أن التفاعل والتواصل المشرقي محدود مع السودان (باستثناء مصر، وبدرجة أقل ليبيا)، لعوامل عديدة، منها عدم وجود جالياتٍ مشرقيةٍ في هذا البلد الذي لم يكن مقصدا للهجرات والإقامة فيه، بل كان على العكس بلدا دافعا لأبنائه نحو الهجرات المتتابعة. كما لم يكن السودان، للأسف، مقصدا للسياحة أو العلاج، وقد اقتصر التوجه إلى السودان على طلبةٍ، تلقوا تعليمهم في جامعاته، وعلى نفرٍ ضئيل من المستثمرين، فضلا عن عوامل تتعلق بالثقافة والفن، فرموز الثقافة السودانية غير معروفين على نطاق واسع في العالم العربي (باستثناء الطيب صالح وفي العقد الأخير أمير تاج السر)، وينطبق ذلك على الغناء والموسيقى السودانية وبقية المناشط الفنية، وعلى الأنشطة الرياضية.
وللأسف مُجدّدا، فإن الذاكرة العربية في المشرق التي تنوء بذكريات الحروب والصراعات والنكبات، لا تحتفظ كثيرا بذكرى مشاركة السودان في حرب أكتوبر 1973 إلى جانب الجيش المصري، ومشاركة وحداتٍ سودانيةٍ ضمن الجيش المصري في حرب فلسطين 1948. وتكاد التعقيدات التي آل إليها الوضع في اليمن تقفز عن مشاركة السودان في قواتٍ بريةٍ أسهمت في تثبيت تحرير عدن من الحوثيين.
غير أن عاملاً راهنا، وليد هذه الحقبة المتأخرة، أسهم في ضعف الاهتمام بالاحتجاجات السودانية، وهو أن هذا البلد شهد احتجاجات عديدة سابقة، وإنْ على نطاقٍ أضيق، على الحكم العسكري ذي الصبغة الإسلامية، وإن صورة ذلك البلد العربي في وعي الجمهور العربي تقترن بحالة عدم استقرارٍ شبه دائمة. فيما الاحتجاجت الراهنة، وهي الأوسع والأكبر، تفتقد، في أنظار الجمهور العربي، إلى "التسييس". والمقصود أنها لا تلامس قضايا عربية كبيرة وعامة، وأنها ذات طابع محلي صرف، علماً أن انتفاضات تونس ومصر وليبيا قبل تسعة أعوام كانت على هذه الشاكلة، محلية المضمون والخطاب والأهداف، لكن نتائجها السريعة والمثيرة في تحقيق التغيير جذبت الاهتمام.
ومقارنةً بالحدث الفنزويلي، فإن سببا رئيسا للانشغال بأحداث ذلك البلد يعود إلى الاستقطاب
الدولي الذي أثاره هذا الحدث منذ بدايته، فقد كان من شأن التفاعل الأميركي السريع مع إعلان رئيس الجمعة الوطنية (البرلمان)، خوان غايدو، تنصيب نفسه رئيسا للبلاد، واعتراف واشنطن به رئيسا، ثم مسارعة روسيا إلى إعلان الوقوف مع الرئيس "الشرعي"، كان من شأن هذا كله أن جذب الانتباه بقوة إلى ما يحدث في تلك البلاد، وقد وجد الشطر الأكبر من المصنفين يساريين وممانعين في الموقف الأميركي حجةً ذهبيةً للوقوف وراء الرئيس الحالي، نيكولاس مادورو، وفقا للبوصلة المعهودة "مع كل من يقف ضد أميركا". وليس مهماً لديهم السؤال: مع من يقف الواقف؟ وكالعادة، فإن آخر ما يشغل بال هؤلاء هو موقف الشعب المعني نفسه حيال نظام بلاده، ومستوى حياته، وحقوقه، وحتى حقه الخاص في تقرير مصيره. وقد اشتعلت منصّات التواصل بمثل هذه المواقف، وبمواقف غيرها، أخفت صوتا، أيّدت توجّه المعارضة الفنزويلية، وذلك خلافا للحدث السوداني الذي لم يجذب اهتماما دوليا ملحوظا إزاءه. وهي مسألةٌ تستحق التأمل، إذ إن من تعاقبوا على حكم هذا البلد (مع الحذر من التعميم) قد أضعفوا مكانة السودان، وأسهموا في إضعاف حضوره قوة سياسية وجيوسياسية واقتصادية وثقافية في المنطقة والعالم، وهو ما أضعف الاهتمام الخارجي بالمجريات في هذا البلد العربي العريق والعزيز. وهذا واقعٌ مؤلمٌ يتعين الاعتراف به من حكماء السودان وعقلائه، وما أكثرهم، واستخلاص الدروس منه.