تونس.. ثورة التلاميذ وتغيير المعادلات

تونس.. ثورة التلاميذ وتغيير المعادلات

02 فبراير 2019
+ الخط -
ثلاثة أشهر من التفاوض بين وزارة التربية والجامعة التونسية للتعليم الثانوي (نقابة مركزية) وأربع عشرة جلسة تفاوض وسيل جارف من البيانات والبيانات المضادة.. أفضت كلها إلى شل أكثر من 80% من مؤسسات التعليم الثانوي والإعدادي التي يؤمها 900 ألف تلميذ، وجدوا أنفسهم خارج المدارس، محرومين من الحق الذي يضمنه لهم الدستور التونسي، الحق في التعليم المجاني والمعرفة.
جدل المطالب النقابية التي تفاوض من أجلها الجامعة العامة للتعليم الثانوي، نيابة عن عشرات آلاف المدرسين، وشرعية هذا المطالب من عدمها، أمرٌ قد تتم تسويته في مقبل الأيام، فالأهم محاولة بلورة قراءة تحليلية لانعكاسات هذا الوضع (ورمزياته)، والذي تجمع كل الأطراف على وصفه بالكارثي، وأصبح فيه التلاميذ وأولياؤهم رهائن بين الحكومة والنقابة. وقد أصبحت الأزمة الراهنة للمؤسسات التربوية قضية رأي عام، تناقش حالياً تحت قبة البرلمان، بعد أن شغلت مواقع التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام، فضلاً عن الشارع التونسي، وكل العائلات التونسية ذات العلاقة المباشرة بهذه الأزمة.
وقد رجحت مصادر عليمة أن يكون ما يجري ليس سوى واجهةٍ لنقل الملف السياسي من الأطراف الفاعلة في البلاد إلى المؤسسة التربوية التي لم يسبق منذ الاستقلال (1956) أن شهدت ما تشهده حاليا. وفي هذا السياق، اتهم وزير التربية، حاتم بن سالم، الجبهة الشعبية 
(قطب حزبي يساري معارض) بأنها وراء الأزمة. وعلى الرغم مما يأمله الرأي العام من انفراج للوضع، فإن ما يدور في الكواليس يذهب إلى ترجيح مزيد من تعقيد الأوضاع، مع تلويح نقابة التعليم الأساسي، هي الأخرى، بالتحرّك ومواصلة نقابة الثانوي التمسّك بمطالبها ودعوتها إلى يوم غضب يوم السادس من فبراير/ شباط الجاري. وقد وصف ملاحظون هذا الوضع "بالتراجيديا المأساوية"، حيث لا نجاة لأحد، ولا أفق مفتوحاً للخروج من هذا النفق المظلم: 900 ألف تلميذ في عطالة كلية ومدرسية منذ حوالي ثلاثة أشهر، عندما أعلنت الجامعة العامة للتعليم الثانوي مقاطعتها إجراء الامتحانات، ولم يبق من السنة الدراسية من زمن فعلي للتدريس سوى شهرين ونصف الشهر... فهل نحن فعلاً أمام سنة بيضاء، يصفها الأولياء بأنها ستكون سوداء، ستتحمّل مسؤوليتها كل الأطراف، نقابة وحكومة وعقلاء وتلاميذ.
تعيش المدرسة التونسية اليوم منعرجاً خطيراً، ولا يمكن لأحد أن يتصوّر كلفة استمرار هذا الوضع، نتائجه المباشرة إدخال البلاد في أزمةٍ خانقة لا حل لها. وقد انتبه التونسيون وهم يتابعون خروج آلاف التلاميذ إلى الشارع ثائرين، محتجين خارجين عن صمتهم، معبرين عن موقفهم من صراع نقابي سياسوي هم ضحاياه، وكان المؤمل أن تكون مدارسهم خطاً أحمر، بعيداً عن كل صراع، مهما كانت مرجعياته وأسبابه، فقد انتفض هؤلاء التلاميذ، وعبروا بالاحتجاجات والمسيرات عن غضبهم، مدافعين عن حقهم في المعرفة والعلم، وسيلتهم في ذلك الشارع ووسائل التواصل الاجتماعي، لكنهم التزموا، على عكس الكبار، الممارسات السلمية الديمقراطية، باعتبارهم مواطنين، رافضين التعامل معهم على أساس أنهم موضوع المشاجرات والتجاذبات والتفاوض والضغط... إنهم "ذواتٌ قادرة على رد الفعل والضغط والتعبير"، على حد توصيف الأستاذة الجامعية آمال القرامي، فهؤلاء التلاميذ يشكلون جيلاً نشأ في مسارات التحول الديمقراطي، وعاش على وقع الاحتجاجات والمسيرات السلمية والاعتصام، وواكب أيام الغضب، وعايش تشكل الحركات الاحتجاجية، وسطوة وسائل التواصل الاجتماعي، وإدراك سلطة الخطاب الحقوقي، واستراتيجيات التفاوض، فراح يتحدث عن مراحل الحوار ويهدّد بالتصعيد.
لقد لفتت احتجاجات التلاميذ إلى قوةٍ أخرى بدأت في التشكل، إنها تلك القوة "السائلة" التي يقابلها مصطلح الدولة "الصلبة". والمصطلحان من أدبيات عالم الاجتماع البولندي، زيجمونت باومان (1925-2017)، ويؤشران إلى تحولاتٍ نوعيةٍ، تشهدها تونس منذ الثورة، يعود بعضها إلى عوامل موضوعية ذات علاقة بعالم "ما بعد الحداثة"، ويعود بعضها الآخر إلى 
سياقات "الدولة الصلبة"، كنايةً عما يكتسبه ما كان قائماً من عمق وتكلس واستعصاء عن التغيير. أما "الثورة السائلة"، فهي ثورة التلاميذ في تونس والسترات الصفراء في فرنسا، وهي ثورة الهامش في وجه الدولة ومؤسساتها، وما يتأسس باسم الديمقراطية والتزاماتها.. وبكلام آخر، "الحداثة الصلبة"، كما يرى باومان، تعبير عن مرحلة سيادة العقل على كل شيء، وتحكم الدولة في الاقتصاد والتعليم والتنمية، وصولاً إلى كبح جماح الأفراد لصالح المجتمع.
أما ثورة التلاميذ هذه واحتجاجاتهم فهي من هذه الزاوية "حداثةٌ سائلةٌ"، تعبّر عن تفكك هيمنة "الدولة الصلبة" والنقابة المنمطة وسلطة المجتمع والأسرة ومشاعر الخوف والتردّد، ففي ظل هذه السيولة، يمكن أن يحدث أي شيء، ولكن لا شيء يمكن أن نفعله في ثقةٍ واطمئنانٍ، وفي الحالة التونسية الراهنة، فإن كانت مسؤولية أزمة المؤسسة التعليمية ذات قطبين (الوزارة والنقابة) والمدرسين المنضوين تحتها، فإن هناك قوة أخرى بصدد التشكّل (ثورة الأولياء والتلاميذ)، ويمكن لهذه القوة أن تقلب موازين القوى باتجاه تغيير بنية العلاقات ونظام التمثلات، إنها قوة جيلٍ صاعدٍ ومتحفزٍ قادرٍ على تغيير المعادلات.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي