عن ملتقى الكويت للقصة العربية

عن ملتقى الكويت للقصة العربية

09 ديسمبر 2019
+ الخط -
انتهت في الكويت، قبل أيام، فعاليات جائزة الملتقى للقصة العربية في دورتها الرابعة، الجائزة الأهم في القصة القصيرة، هذا الفنّ الأصيل الذي زاحمته الرواية في زمنها الذهبي، حتى غدت هي المتسيّدة المشهد الأدبي حالياً. وكان للفكرة التي أنجزها الروائي والقاص طالب الرفاعي استحداث جائزة للقصة القصيرة العربية، في الكويت، التفاتة مهمة، دافع عنها الرفاعي، وهيّأ لإنجاحها كل الإمكانات والشروط والظروف. وشهدت الجائزة مشاركة القاصين العرب والمترجمين والإعلاميين من كل أقطار الوطن العربي والمهجر. ورعتها الجامعة الأميركية للشرق الأوسط، وهي جامعة متطوّرة في كل ما يتعلق بالهندسة بأنواعها، تمتلك في رحابها مختبراتٍ ذات مواصفات عالمية، وقد زار الوفد المستضاف في موسم الجائزة الأسبوع الماضي مرافقها ومختبراتها.
كان أجدادنا يسمّون الكويت "أرض العرب"، وعاش فيها من أدباء عُمان عبدالله الطائي ومحمد أمين. ومرّ منها وعاش فيها من بقية العرب زكي طليمات وغسّان كنفاني وناجي العلي وبدر شاكر السياب وآخرون. كذلك كانت من أهمّ منارات الثقافة والوعي في العقود الماضية، إذ منها صدرت أهمّ مجلة ثقافية نشأنا مع أعدادها الغرّاء، "العربي".
القصّة ليست فقط مرآةً تجوب الشوارع، كما قال ستاندال عن الرواية، بل هي مرآة تلسكوبية صغيرة مثبَتة في قرن العين، لا يجيد تحريكها الجميع لالتقاط تفاصيل الحياة، تفاصيل الحكاية. مرآة تتبع الجسد العابر تحت الأشياء، فعين القاص هي الراصد الأول لما يجري في حياتنا. الشخص العادي يرى ما ترى عيناه، بينما القاصّ يبحث عن الجزء المخفي من جبل الجليد.
فيها نبحث عن ذواتنا خارج أنقاض النمطي والعابر. كما كتب، مثلاً، أحمد بوزفور، ومحمد خضير، ومحمود جنداري، وإبراهيم صموئيل، وآخرون.. وكما كتب وليام سارويان، وجنكيز إيتماتوف، وغسان كنفاني. نكتب، عن الظل الذي يهرُب منا ليندسّ تحت الشاحنات، وينام قريراً في البرودة والصمت. نكتب عن النجوم الهاوية في السماء هروباً من سطوة القمر. نكتب عن آثار أرجل العناكب في الجدران والنمل في الزوايا المعتمة. نكتب عن الهالة المحيطة بالجبل، الهالة المخفية. نكتب عن الصحراء، المرتع الأول للأحلام والرؤى والشعر الجاهلي، حيث يتحد الموت بالحرية. نكتب عن بيوت الطين، ذات المروق التي يتسرّب منها الضوء والحكايا...
القصة تلك الزوبعة الصغيرة التي تعصف بالرأس، وهي تبحث عن ولادتها في هيئة كلمات، يبقى القاص وحده من يستطيع تطويعها وتحويلها إلى لوحة للحياة تعاند الموت والجمود. نعيش طويلاً حين نقرأ قصص تشيخوف التي كُتبت منذ أكثر من قرن، ولكنها تعيش أبديةً، وبنفاذ لا نهائي. هذه العلاقات المتشابكة بين البشر، والتي يدور جزء كبير منها في الخفاء، خصوصاً في مجتمعات الجزيرة العربية، لا يظهر للعيان إلا السطح اللامع والملابس النظيفة بوجوه صارمة يصعب أن تقرأ ما يعتمل في دواخل أصحابها بسهولة. تُخفي بقدر ما تظهر قصصاً أخرى تعتمل في حياة مجتمعاتنا، في نزوحِها المتصاعد من الحياة القديمة البسيطة إلى الحياة الاستهلاكية المعقدة..
تُكوّن القصة، نظراً إلى طبيعتها التكثيفية والترميزية والإشارية، حقلاً مغرياً للإبداع والتفنن. أما الرواية فهي حقل أكثر اتساعاً ويكون المجال فيها أكثر لعرض العوالم المتشعبة ومعالجتها، خصوصاً الاجتماعي والتاريخي. ويظلّ توثيق الطبيعة ورصدها أحدَ رهانات كاتب السرد؛ والطبيعة مرتبطة بالإنسان وأعماقه، فهي ليست فقط أشجاراً ومناخاً، بل هي مرتبطةٌ ارتباطاً عضوياً بالإنسان، وخصوصاً الإنسان البسيط. ففي رواية "زقاق المدق" مثلاً، أوصاف نجيب محفوظ الطبيعية التي تحولت في ما بعد وتغيرت، ولكنّ الروائي استطاع أن يخلّدها ويوثقها، ما لا يستطيع فعلَه غيره.
أمر مهمّ آخر، الطفولة التي لا غنى للكاتب عنها. الطفولة، التي على الرغم من قصرها زمنياً، فإنها تشكل "البئر الأولى" التي لا ينضب معينها أبداً، والتي يحتاج الكاتب إلى الاغتراف منها دائماً، مهما تقدّم به العمر. هذه الطفولة البريئة بكل المقاييس، والتي لا تعرف حدوداً، ولا منطقاً، ولا تحفّظات.
حين آن موعد السفر، وكان الوقت قرب الأصيل، تذكّرت بيت مجنون ليلى "تمتع من شميم عرار نجد/ فما بعد العشية من عرار"، والعرار نبتة عطرة، وهناك شاعر أردني كبير سمّى نفسه عرار.
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
593B5A80-7333-4F6B-AC2C-800C049BDB93
محمود الرحبي

كاتب وقاص عُماني، صدرت له تسع مجموعات قصصية، وأربع روايات، فاز بعدة جوائز عربية

محمود الرحبي