نحو نظام سياسي فلسطيني تشاركي

نحو نظام سياسي فلسطيني تشاركي

08 ديسمبر 2019
+ الخط -
في غمرة الحديث عن الانتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية، والاجتماعات المكوكية، والوساطات الإقليمية، والضغوط الدولية، والمحاصصات الداخلية، يتناسى المتخاصمون التشوهات البنيوية التي تسببوا بها للنظام السياسي الفلسطيني على مدار العقد الماضي، ويستمرّون في خلخلة أسس ما تبقى منه، من دون أن يسمحوا له بالانهيار، فقد أجاد المتخاصمون فنون اللعبة، وأدركوا تكتيكات وحدود بعضهم بعضا، وأمعنوا في حالة اللا-اكتراث؛ كيف لا وقد غيبوا الفلسطينيين شعبا من جوهر نظامهم السياسي، ودمروا قنوات المحاسبة والمسؤولية ومؤسساتهما وقواعدهما. والآن، يتفاوض أقطاب الشرذمة الفلسطينية على أسس عقد انتخابات لمجرّد عقدها، ويستمرون في تسجيل النقاط ضد بعضهم بعضا، ومن دون أي اكتراثٍ لضرورة تصور وبناء نظام سياسي فلسطيني جديد قادر على النهوض بالفلسطينيين. 
على الرغم من الحاجة الملحة لتبنّي الفلسطينيين فكراً استراتيجياً استشرافياً يخلخل النظم السائدة، ويؤسّس لنظم جديدة بعيدة كل البعد عن الشخصنة أساسا للحكم والحوكمة، يمعن قادة أقطاب الشرذمة الفلسطينية بتصليب نظام سياسي مهترئ، فقد أهليته وشرعيته لقيادة الفلسطينيين، من أجل تحقيق مطالبهم وتلبية حقوقهم. لذا، آن الأوان لتصور نموذج قيادة جمعية قادرة على تنفيذ استراتيجية فلسطينية ممثلة للجميع، تضع في صلبها جوهر المطلب الفلسطيني (الحرية)، ولا تكترث لاشتراطات الفاعلين الخارجيين والقوة المحتلة ومطالبهما، فالحوكمة الجيدة وبناء الدولة وإصلاح المؤسسات وإعادة بناء المؤسسة والعقيدة الأمنية يجب أن تنسجم كلها مع مطلب الحرية الذي لا يتحقق إلا بالاشتباك مع القوة المحتلة والمستعمِرة، وعدا ذلك سيكون مضيعةً لوقت الفلسطينيين وجهدهم وتضحياتهم وعذاباتهم.
ومع أن نموذج القيادة في منظمة التحرير الفلسطينية هو نظام ذو طبيعة جمعية، نظريا، إلا إنه 
ليس كذلك في الواقع. وفي ظل العيش تحت شرط استعماري كولونيالي، أصبح حريّا بالفلسطينيين إعادة النظر بنموذج "القائد الواحد الأوحد" أساسا للحكم والحوكمة. فعلى سبيل المثال، وبديلا لنظام الحوكمة القائم، يمكن تخيل وبناء سيناريو ونظام مغاير، بحيث ينتخب الشعب الفلسطيني لجنة صغيرة من القادة تشكل مكتباً سياسياً قيادياً فلسطينياً، على أن تضم أربعة أشخاص/ قادة، وأن تكون بينهم امرأتان أو على الأقل واحدة، فيضطلع كل عضو قيادي فيه بمسؤولياتٍ متنوعة، ولكن تكاملية، ويكون لكل منهم وزن سياسي مماثل: واحد مسؤول عن الشؤون الداخلية والمجتمعية، وآخر عن الشؤون الخارجية والدولية، وواحد عن الشؤون الاقتصادية والتنموية، وآخر عن شؤون التعليم والشباب. ويكفل تقسيم الأعمال على المستوى القيادي على هذا النحو ألا يختطف قائد واحد وحزبه السياسي المشروع الوطني وفرض رؤيتهما وبرنامجهما السياسي، ويكفل مستوىً أفضل من المساءلة والشفافية، ويُسفر عن آثار إيجابية ملموسة، تنعكس على حياة الفلسطينيين اليومية.
ولن يعمل المكتب السياسي هذا في الفراغ، بل سيتلقى الدعم من مجلسَين إشرافيين مختلفين، يكون مسؤولاً أمامهما أيضاً. يتألف أحد المجلسين من "الحكماء" بينما يتألف الآخر من "الشباب" (تقل أعمارهم عن 35 عاماً)، ويضم كل مجلس خمسة عشر عضواً على الأكثر، وتكون مدة الدورة ثلاثة أعوام. ويوازن المجلس في تركيبته بين الرجال والنساء، ويكون ممثلاً لمختلف أصحاب 
المصلحة والطبقات الاجتماعية والمناطق، ويضطلع بدور حيوي في صوغ الاستراتيجيات ومتابعة تنفيذها ودعم الفاعلين السياسيين ومحاسبتهم. إذ يهدف مجلسا الشباب والحكماء المقترحان، في المقام الأول، إلى ترسيخ أركان المساءلة داخل النظام السياسي الفلسطيني، واستحداث مؤسساتٍ ضروريةٍ لاستدامة الضوابط والموازين بعد الآثار الوبيلة المترتبة على غيابها عقودا. وستكون تلك المؤسسات استشرافية وإشرافية ورقابية بطبيعتها، ولن تكون تشريعية أو تنفيذية أو قضائية، وستستمد قوتها من قدرتها على تعرية القيادات عند الحاجة ومحاسبتها، ودعم الرؤى الوطنية وتفعيلها، وإرساء نهج "المحاسبة والشفافية أولاً".
قد يرى بعضهم هذه الاقتراحات غير قابلة للتحقيق، نظراً إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي، والانقسام الفلسطيني الداخلي، والتشتت والتشرذم الأفقي والعمودي، وحالة الوهن العامة، وإطار عمل اتفاق أوسلو، وحل الدولتين المنشود. ولكن في الوقت نفسه، من المهم الإقرار بأن أُطر العمل السياسية القائمة، وما تستند إليه من أُسس منطقية، معيبة أساساً، ولذا لا يمكن التعويل على قدرة التدابير التصحيحية على إصلاح المشكلات، فقد آن الأوان لاستحداث نماذج جديدة وغير تقليدية للسياسة والقيادة الفلسطينية، حتى وإن كانت تبدو غير واقعية في الوقت الراهن. ما يحتاج إليه الفلسطينيون هو رؤيةٌ وآفاق مستقبلية لقدرتهم على العمل جماعياً نحو الإنجاز والانعتاق، بدلاً من العمل ضمن إطار قيادي وحاكمي عفا عليه الزمان، ويسير بهم من معضلةٍ ومشكلةٍ إلى أُخرى، ومن ضعفٍ إلى هوان فانكسار.
ثمّة حاجة ملحّة إلى نقاش وجدل جدّيين، لإعادة تصور نظام السياسة والحكم الفلسطينيين، فثقافة الجدل هي جزء من التجديد، وإحدى الأدوات المهمة للخروج من الأزمات والانسدادات. وعليه، يرتبط تجديد الفكر السياسي الفلسطيني ارتباطاً وثيقاً بتحقيق الحرية وتقرير المصير، ولن نقترب من تحقيق هذين الهدفين إلا عندما نتصوّر هياكل سياسية ونُظماً مغايرة، ونوحّد جهودنا في سعينا إلى ترجمة هذه الرؤية إلى واقع ملموس.

دلالات

F5CB8409-A449-4448-AD7A-98B3389AADB7
علاء الترتير

كاتب فلسطيني، مدير البرامج في شبكة السياسات الفلسطينية، وباحث في المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف. عمل باحثاً ومدرّساً في جامعة لندن للاقتصاد والعلوم السياسية والتي حصل منها على الدكتوراه.