"الناتو" يبحث عن أعداء جدد

"الناتو" يبحث عن أعداء جدد

08 ديسمبر 2019
+ الخط -
لم يكن حلفاء الحرب العالمية الثانية المنتصرون متجانسين سياسياً، وإنما جمعهم الخوف من توسّع السيطرة النازية بقيادة أدولف هتلر على كامل أراضي أوروبا. بدأ هتلر خطواته العسكرية باجتياح مريح لبولندا أمام أعين العالم، فكان تحالف المضطرين الذي أنتج، فيما بعد، نصراً ساحقاً عليه، ولم تظهَر خلافات الحلفاء إلا عند تقاسم الأسلاب، فبمجرد عزف موسيقى النصر عند بوابة براندنبرغ في ألمانيا، حتى طفت الأيديولوجيا على السطح، وتمسّكت جيوش الحلفاء المحتلة بمدينة برلين، وكان الوجود السوفييتي فيها مؤثراً، وكأن الحرب لم تنتهِ بعد. حاصر السوفييت المدينة، بمن فيها من الجيوش التي كانت حليفته، فما كان من باقي الحلفاء إلا أن تكتلوا في وجهه، ليشكلوا الحلف العسكري الذي أُطلق عليه حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويصبح هذا الحلف أكثر قوة بعد أن انضمت إليه أميركا في إبريل/نيسان 1949، لم يتأخر الرد السوفييتي كثيراً، فبادر إلى الإعلان عن تأسيس ألمانيا الديمقراطية فوق الأراضي التي يحتلها، وباشر بوضع الحواجز والأسلاك الشائكة لتصبح منطقة برلين خط تماسٍ ومواجهة بين دول الحلف والاتحاد السوفييتي، لكن شعار الحلف، والهدف منه، لم يكونا سرّيين، بل توجّها بكل وضوح ضد الاتحاد السوفييتي، وأحيطت الفقرة الرابعة من ميثاقه بعناية خاصة: إن الاعتداء على عضو هو بمثابة الاعتداء على الجميع.. بما يعني إعلانا خفيا عن حرب عالمية تالية في حالة الهجوم على أي عضو. 
أظهر اللورد هاستينغز إسماي، وهو أول سكرتير عام للحلف، حسّه الفكاهي بتلخيصه الموجز مهمة "الناتو" بقوله: إن الحلف وُجد لإبعاد السوفييت، واستقدام الأميركيين، وإهانة الألمان.. نجح الحلف، بقيادة أميركية، في هذه المهمة بشكل كبير، فقد كان بمثابة المفاعل في الحرب الباردة التي أحرقت، في النهاية، الاتحاد السوفييتي، وتركت أعضاءه يتسابقون ليصبحوا أعضاء في "الناتو"..
وقد ضَمِنَ حلف الناتو وجوداً عسكرياً أميركياً دائماً في أوروبا، من دون أن يشعل حساسيات وطنية، فقد كان موجوداً بدعاوى الأمن المبرّرة شعبياً، كما تابع مهمته بعد نهاية الحرب الباردة، فاستمر باعتبار روسيا التي ورثت الاتحاد السوفييتي عدواً، وزحفت معدّاته العسكرية الاستطلاعية والتدميرية نحو الشرق، لتحاذي حدود روسيا، وكلفت هذه المهمة شعوب أوروبا الغربية 2% من إجمالي دخلها الوطني، الأمر الذي شكّل ضغطاً اقتصادياً عجزت عنه، أو تهربت منه، بعض الدول الأعضاء، لكنه ضمِن لأميركا قيادة عسكرية وسياسية فُرضت، على الرغم من رغبة فرنسا في الاستقلالية التامة عن وجهة النظر الأميركية، الأمر الذي جعل فرنسا في عهد الرئيس ديغول (1959 - 1969) تنسحب من الحلف، وتتبنى استراتيجية تقارب مع الكتلة الشرقية، ولم تنتهِ المقاطعة إلا في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي (2007 - 2012).
يدرك الأعضاء، على الرغم من التحفظات، أهمية بقاء الحلف بشكله العسكري الصِرف مع بعض التعديلات. وناقشت القمة التي عقدها زعماؤه قبل أيام في لندن وجود الحلف العسكري، وهم يدركون أن استمراريته مرهونة بوجود الأعداء، وإن لم يكونوا موجودين فلا بد من تخليقهم. ولكن الوجود يحتاج تمويلاتٍ كافية، وهو ما ركّز عليه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، فحث جميع الأعضاء على الالتزام بنسبة الـ 2% اللازمة لتشغيل الحلف بكامل طاقته، وأكد أهمية الجبهات التي يقف الحلف إزاءها، وأهمية أن تكون هناك أهداف تضمن للحلف وجوداً مبرّراً قانونياً وأخلاقياً. ولذلك بدا النقاش مستفيضاً عن الصين ودورها العدواني المتصاعد، ما يعني أن الحلف يضيف الصين إلى جانب روسيا والإرهاب إلى قائمة أعدائه. وهذه الجبهة الجديدة، البعيدة جغرافياً، تتطلب مزيداً من القواعد، ما يعني تطويل ذراع الحلف نحو الجنوب، ويضمن بقاءه العسكري الذي ولد بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وقد وجَد الآن مبرّراً جديداً لبقائه الذي قد يكون على حساب تجمّع اقتصادي موازٍ هو الاتحاد الأوروبي. وهذه نتيجة تدعو إلى القلق، بحيث يبقى ما هو عسكري، أما ما هو اقتصادي فسائرٌ على طريق الانحسار.