الانتحار في لبنان وخطيئتنا

الانتحار في لبنان وخطيئتنا

07 ديسمبر 2019
+ الخط -
لا يحتاج المنتحر إلى أكثر من إقناع نفسه في قدرته على إنهاء حياته في لحظة. خطوة قد تكون مليئة بالانفعالات والمشاعر، لكنها لا تستدعي إدانته إطلاقاً. لا أحد، مهما تمسك بما يعتبره "تحريماً دينياً" و"ضعفاً إنسانياً"، يحقّ له إدانة المُنتحر. لا يحقّ لك، وأنت جالس على أريكة، وقادر على تلبية طلب أولادك وأهلك ورفاقك، ومطمئن إلى الأموال في محفظتك أو شبكة الأمان الخاصة بك، أن تبدأ بطرح النظريات على المُنتحر، وتباشر الإدّعاء "لو كنت مكانه لفعلت هذا وهذا". طبعاً، لو كان هو مكانك ربما لم يكن ليسمح لنفسه بالادّعاء مثلك. لا يمكنك، باسم الحقّ الإنساني، استغلال انتحار أي شخصٍ من أجل مسألة سياسية أو لتسجيل نقاط سياسية. بئس الزمن الذي يُصبح فيه انتحار انسان مجرّد نبأ إخباري لتمتين الاصطفافات السياسية. 
ألا تدركون أنه بحسب إحصاءات لقوى الأمن الداخلي، تمّ تسجيل 1393 حالة انتحار في لبنان، بين عامي 2009 و2018، ونحو 120 حالة انتحار في العام الحالي؟ ألا تدركون أن سلامة الصحة عموماً، ومنها الصحة النفسية، هي أساس بناء المجتمعات؟ عصيّ على الفهم أن هناك فئات وأشخاصا يتعاملون مع الأمر كأنه نكتة سمجة، أو مسألة مادّية غير مرتبطة بحياة بشرية. ربما على هؤلاء أن يضعوا أنفسهم مكان المُنتحر. قد تكون حالات الانتحار الأخيرة في لبنان اقتصاديةً في معظمها، لكنها لا تنفي الحاجة إلى التوقف قليلاً والتخلّي عن الضوضاء اللبنانية الاعتيادية، لناحية التعاطي بسطحيةٍ مع موضوع الانتحار بشكل عام، أياً كانت أسبابه وظروفه، وليضع كل منا نفسه مكان المُنتحر. يسعنا التفكير قليلاً، لمعرفة أن الأمر برمّته كارثةٌ حقيقية، تستوجب التعاطي معها بكثير من المسؤولية الإنسانية.
قد لا نفهم في المعالجات النفسية، فهو اختصاصٌ له ناسه، لكننا نفهم شعور الآخر. يكفي النظر إلى بعضنا بعضا لنفهم أن خلف العيون إنسانا محطّما. صحيح أن كثيرين منا محطّمون في المقابل، لكننا لن نخسر شيئاً إن تمكنّا من المشاركة في وضع حدّ للتردي الإنساني في ذهنيتنا. ربما لا يحتاج بعضهم سوى إلى كلمة أو حوار عادي، وآخرون قد يحتاجون إلى حلول لمشكلات مادّية واجتماعية، يُمكن حلّها إذا تعاون أفراد عديدون. لا يمكن انتظار الأنباء العاجلة عن انتحار أشخاص، فيما يمكن التعاون لمعالجة أي مشكلة.
صحيحٌ أن الدولة اللبنانية يفترض أن تكون مسؤولةً عن الملف الطبي، ولكن الواقعية تقضي بعدم انتظار أي شيء من الدولة. على الانتفاضة اللبنانية أن تنتصر يوماً ما فقط لتحقيق مفهوم الدولة العلمانية الاجتماعية العادلة التي تسمح برفع مستويات الاهتمام بالصحة، ومنع تطويق المواطنين، وجعلهم مجرّدين من كل مقوّمات الكفاح للبقاء على قيد الحياة. لا يجوز انتحار بعضهم بسبب بضع مئات من الدولارات، يُمكن تأمينها على مستوى جماعي، إذا قرّرت الدولة البقاء خارج دائرة الاكتراث بالناس. ماذا فعلت الدولة لكل المنتحرين، أو ذويهم، أو حتى من أجل تحرير الإنسان من عبوديتها؟ لا شيء. ماذا ستفعل مستقبلاً؟ لا شيء.
هذا النظام مصنوع فقط من أجل المافيات. يجب عدم نسيان ذلك. لا حياة لإنسان في لبنان طالما بقي هذا النظام على قيد الحياة. موته يعني حياتكم وموتكم يعني حياته. لا يجوز أن نقبل تصدير هذا النظام ذهنية اللامبالاة إلى عقولنا، عبر أنصاره وحزبييه من جهة، وعبر زرع الخوف فينا من جهةٍ أخرى، فيما المواطنون يتساقطون، سواء بحالات انتحارٍ أو حوادث سير بسبب طرقات سيئة، أو لأي فرضيةٍ أخرى. تجذّر الوعي يبدأ في تحويل ذهنيتنا من إنسانٍ تابع يكرّر ما يريده النظام إلى إنسان حرّ يهتم بالإنسان الآخر. لا يمكن التفاعل سلباً مع موضوع الانتحار على قاعدة إنه "بعيد عنا"، فيوماً ما قد يكون أقرب إلينا مما نظنّ.
6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".