هل ينصف الاتحاد التونسي للشغل الفاضل بن عاشور؟

هل ينصف الاتحاد التونسي للشغل الفاضل بن عاشور؟

05 ديسمبر 2019
+ الخط -
ولد محمد الفاضل بن عاشور سنة 1909 وتوفي سنة 1970. وعلى الرغم من مرور نصف قرن على وفاته، يأبى الجدل بشأنه أن يتوقف، فقد استنجدت به بعض التيارات الدينية وسيلةً لإدارة مناكفات فكرية وتاريخية وصراعات سياسية، واستعملته أداةً لكسب شرعية الخوض في الدور السياسي للاتحاد العام التونسي للشغل، ومدى شرعيته، ومختلف القضايا النقابية التي احتكرتها تاريخيا قوى دستورية ونقابية، وأخرى يسارية وقومية عربية، هي الأكثر فعلا وتأثيرا في تاريخ المنظمة النقابية الكبرى في تونس. 
تخبر بيوغرافيا محمد الفاضل بن عاشور عن انحداره من سلالةٍ غير بعيدة عن عالم السياسة، انتهجت العلم سبيلا واختارته مهنة. والده هو محمد الطاهر بن عاشور (1879-1973) أحد أهم شيوخ الجامع الأعظم، وأحد الرواد المحدثين للنظرية المقاصدية في الإسلام، وصاحب 40 مؤلفا، من أشهرها تفسير القرآن المعروف "التحرير والتنوير" في 30 مجلدا، و"مقاصد الشريعة الإسلامية"، و"أليس الصبح بقريب" الكتاب الذي ضمنه رؤيته الإصلاحية للتعليم الزيتوني.
بدأ محمد الفاضل بن عاشور حياته المهنية مدرّسا في جامع الزيتونة سنة 1932، وتولى بعد الاستقلال عمادة كلية الشريعة وأصول الدين عند تأسيس الجامعة التونسية مطلع الستينيات. كما ترأس الجمعية الخلدونية التي سيحتضن مقرّها المؤتمر التأسيسي للاتحاد العام التونسي للشغل يوم 20 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 1946. وانبعث على يديه معهد الحقوق العربي ومعهد 
الفلسفة، وحظي بعضوية مجمعي اللغة العربية في القاهرة ودمشق، ورابطة العالم الإسلامي في مكّة المكرّمة، ومجمع البحوث الإسلامية في مصر، والجامعة الإسلامية في المدينة المنورة، وحاضر من أعلى منابر عدة جامعات عربية وإسلامية أوروبية، وكان رئيسا للمحكمة الشرعية العليا قبل توحيد القضاء التونسي، ومارس وظيفة مفتي الجمهورية التونسية بين 1962 و1970، وعضوية في الديوان السياسي للحزب الدستوري الجديد الذي أسسه الحبيب بورقيبة سنة 1934، وشارك في مؤتمر ليلة القدر سنة 1946 ما أدى إلى سجنه، وله عدة مؤلفات من أبرزها الحركة الأدبية والفكرية بتونس، وهو ثماني محاضرات أُلقيت في معهد الدراسات العربية العالية في القاهرة.
لعب محمد الفاضل بن عاشور دورا نقابيا متميزا في تاريخ الحركة النقابية التونسية، وتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، وتولى خطة الرئاسة الشرفية للاتحاد مدى الحياة، بينما أسندت الأمانة العامة إلى الزعيم النقابي الشهيد فرحات حشاد. وقبل ذلك انعقد في المكان نفسه، في شهر إبريل/ نيسان سنة 1945، أول مؤتمر للجامعة العامة للمتوظفين التونسيين بعد الحرب العالمية الثانية، وهي الجمعية التي سيتشكل منها صحبة اتحادي نقابات الجنوب والشمال الاتحاد العام التونسي للشغل. ألقى ابن عاشور خطابا مهما في المؤتمر التأسيسي للمنظمة النقابية، ما دعا حشاد إلى إدراجه في السجل الرسمي للاتحاد واعتباره وثيقة مرجعية. وتمكّن من خلال مجمل الأنشطة النقابية الكثيرة، التي مارسها الشيخ الزيتوني، سنتين قبل أن يقع إعفاؤه من وظيفته النقابية في مؤتمر الاتحاد في موفى سنة 1947، ضمان توازنات نقابية وبعث روح فكرية وسياسية جديدة، كان لها كبير الأثر على تطور الحركة النقابية ونظيرتها التوأم الحركة الوطنية.
والواقع أن الجدل بشأن الدور النقابي للشيخ محمد الفاضل بن عاشور، وحتى الوطني، ليس جديدا، إذ تحتفظ الجرائد التونسية، بمقالات كثيرة، نُشرت في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي، تهاجم الشيخ الزيتوني، وتقلل من قيمته، نقابيا وسياسيا ووطنيا، وذلك بعد أن بدأت تتحلّق حوله جموع من النخب الفكرية والنقابية والطلابية، وحتى من عامة الناس، ترى فيه "زعيم الزعماء"، لقدرته الخطابية العالية، وسعة ثقافة العروبة والإسلام لديه، ودفاعه عن القضية الفلسطينية، حتى أنه أسس "لجنة الدفاع عن فلسطين العربية" و"فرع المؤتمر الإسلامي لفائدة القدس الشريف"، وعمل على تنظيم يوم العروبة في ذكرى انبعاث جامعة الدول العربية، ووقف ضد تولي الأمين باي العرش بعد اعتقال السلطات الفرنسية المنصف باي ونفيه في مدينة بو الفرنسية إلى حين وفاته، متهمة إياه بالتخابر مع السلطات الألمانية إبان الحرب العالمية الثانية.
وعاد هذا الجدل بمناسبة المؤتمر الذي عقدته مؤسسة عبد الجليل التميمي للبحث العلمي عن فرحات حشاد ودوره في النضال الوطني سنة 2002، وما ذكره نور الدين حشاد نجل الزعيم النقابي، إن والده لم يتعّرف على الشيخ محمد الفاضل بن عاشور إلا قبل أسبوع من يوم 20 جانفي 1946، وفي ذلك اللقاء أعجبُ بالشيخ، بعد أن حضر أحد دروسه، فأعلمه أنه ينوي تأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل، وأنه ليس للنقابيين مكان ينظّمون فيه مؤتمرهم، فقال لهم ابن عاشور تفضلوا في الخلدونية، وبعد ذلك اقترح فرحات حشاد أن يكون الشيخ الفاضل رئيسا شرفيا تقديرا له، وهو ما قوبل بالتصفيق.
ويوضح محمد الحبيب الهيلة في دراسته المبتكرة "الشيخ الفاضل بن عاشور ومكانته في الاتحاد العام التونسي للشغل من خلال الوثائق الفرنسية" ضمن كتاب "الزيتونة: الدين والمجتمع والحركات الوطنية في المغرب العربي" أن دور بن عاشور في الاتحاد لم يكن مجرد دور شرفي بروتوكولي، فللرجل صولات وجولات في العمل النقابي، ففي العامين الأولين من تأسيس الاتحاد كان دائم الحضور كثيف النشاط، وكثيرا ما يُهتف باسمه إلى جانب فرحات حشاد والاتحاد، وظهرت صورته إلى جانب حشاد ومحمد صالح النيفر في إمساكية شهر رمضان التي أصدرها الاتحاد سنة 1947. وقد أكّدت التقارير التي كانت ترسلها الإقامة العامة إلى وزارة الخارجية الفرنسية على تنامي الاتحاد العام التونسي للشغل وتطوره بقيادة رئيسه الفاضل بن عاشور، وازدياد عدد المنخرطين فيه. ويرجع هذا إلى ازدواجية نشاطه الديني والنقابي - الوطني، الذي توثقه كرونولوجيا الأحداث والمناسبات النقابية التي شارك فيها الفاضل بن عاشور بداية من يوم 8/1/ 1946 إلى يوم 30/3/ 1948 تاريخ المؤتمر السنوي لفيدرالية الموظفين التونسيين، على الرغم من أنه كان مبعدا من رئاسة الاتحاد، وقد دوّنتها التقارير الأمنية والعسكرية المحفوظة في الأرشيفات الفرنسية.
لم يكن الشيخ ابن عاشور محافظا في أفكاره متزمتا في رؤاه السياسية. وعلى الرغم من تكوينه 
الزيتوني الغالب، انفتح سريعا على الأفكار الحديثة والظواهر الجديدة التي ولدت مع الحداثة الغربية وتياراتها، حتى أنه تأثر بالأفكار الاشتراكية، وخطب في عيد العمال في غرّة مايو/ أيار سنة 1946 قائلا "إذا كانت هناك نحلة تدعي أنها عدوّة لرأس المال غير شريعة الإسلام فهي كاذبة، لأن الإسلام سبق جميع هذه النحل". وكان له الفضل المبكر، صحبة رفيق دربه الصحبي فرحات، الذي مات تحت التعذيب، بسبب اتهامه بالمشاركة في المحاولة الانقلابية سنة 1962 وهو في سن 84 عاما، كان له الفضل في بعث نقابات الزيتونيين والمدرّسين عموما. ومع ذلك، بقيت رؤية الاتحاد لدور ابن عاشور، منذ نهاية أربعينيات القرن الماضي، جامدة، ومتأثرة ببعض الخلافات في المقاربة النقابية بين فرحات حشاد ورفيقه الحبيب عاشور من جهة والشيخ الفاضل بن عاشور ورفيقه الصحبي فرحات الأمين العام المساعد في أول مكتب تنفيذي للاتحاد من جهة أخرى.
لقد ترك ابن عاشور إرثا نقابيا وسياسيا وفكريا ودينيا إصلاحيا وتقدّميا شديد الثراء، بما في ذلك دوره المتميز في الدفاع عن المرأة والمساهمة في وضع المخطوط الأول لمجلة الأحوال الشخصية المنسوب للرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة وحده. أوْلى بالاتحاد العام التونسي للشغل أن يردّ له الاعتبار، وأن يجعل منه صحبة رفيق دربه الصحبي فرحات من الرموز المؤسسين للاتحاد الذي تعايشت في داخله التيارات الفكرية والنقابية والاتجاهات السياسية، ووجدت فيها ملاذا يحميها في أزمنة الاستعمار والدكتاتوريات لمّا كان النقابيون والمعارضون يعتقلون ويعذبون ويقتّلون على خلفية هوياتهم النقابية والسياسية.