مفهوم الفرد في العمل السوري المشترك

مفهوم الفرد في العمل السوري المشترك

31 ديسمبر 2019
+ الخط -
تتعدّد دواعي الكتابة في موضوع الفرد السوري اليوم، ولكن إخفاق الجماعة يبقى الداعي الأهم، فمفهوم الفرد صالحٌ ليكون مدخلًا لتفسير فشل العمل المشترك على المستوى السوري الوطني. ولذلك يندرج هذا العنوان ضمن مجموعة عناوين، قادرة بمجملها على تشخيص الإخفاق الجماعي على المستوى الوطني السوري في مواجهة نظام الطغمة والأطماع الخارجية. وتأتي المسرحية الهزلية التي أداها بعض السوريين أخيرا في الرياض مثالًا أنموذجيا لهذا الإخفاق، ولإعادة إنتاجه، على الرغم من أن أبطالها يُسمُّون أنفسهم "مستقلّين"، الأمر الذي يوحي بأنهم عينةٌ من مجموعة مُتحرّرة من قيود الأيديولوجيا.
في العموم، ظل مفهوم الفرد واحدًا من المفاهيم المُعطَّلة عَمليًا وسُلوكيًا في الاجتماع العربي بالعموم. ولم يتخلص من الشحنة السلبية الموجودة في وسم "صعلوك"، كالتي في قول طرفة بن العبد: "وأُفردت إفرادَ البعيرِ المُعبَّدِ"؛ فلا يتفرَّد أحدُنا، حتى يتخلى عنه أهلُوه، ويضطرّ للتخلي عنهم، والأهل تعني القبيلة والعرق والطائفة، وكلَّ ما تُبذل لأجلِهِ الحَميَّة. وما أن يتفرّد أحدُنا حتى يَهيمَ على وجههِ؛ فما زال التحرّر من سطوة الجماعة يُعرِّض الذاتَ المُتحِرَرة للضعف والوحدة والهشاشة. وما زالت مفاهيم قديمة تتدخل للحفاظ على حالة العَطالة في مفهوم الفرد؛ ففي سورية اليوم، يمكن القول بسهولةٍ إن المشهد غير مُهيأ لقبول الفرد الواعي لذاته ولمجتمعه، فضلًا عن عسر ميلاد الفرد في الاجتماع السياسي السوري. ولهذا السبب نفسه، 
ليس هذا الواقع مُهيَّأً أيضًا لولادة (أو لقبول) عمل جماعي حقيقي واعٍ لنفسه ولمحيطه.
لا يمكن أن يكون الإنسان فردًا من دون العقل، وشرط العقل هنا ليس عقله الخاص، بل عقل الآخر، فالمجنون لا يكون مجنونًا، إلا وفق تصنيفات أكثريةٍ من غير المجانين. استنادًا إلى هذا المُنطلَق، الفرد مفهوم عقلاني، لا ينضج إلا بنضوج حوامل الأفعال العقلانية وأدوات إمكانيتها، ومن أهمها اللغة ودلالات الكلمات، وقابلية الاجتماع السلميّة، ومنها الوعي ودرجة نموه، فهو مفهوم يحيلنا إلى الإدراك، إدراك كل ما هو "ليس الأنا"، أي إدراك العالم. ويتطابق هذا الإدراك دلالةً مع الوعي. وهو الذي يجعلنا نعترف بالمجنون مثلًا اعترافًا حقوقيًا وأخلاقيًا كاملًا.
نطرح هنا أن "الأنا" مفهومٌ ناقص من دون الآخر، وهذا الآخر هو شرطه الوجودي، ولكي ينضج الفرد يجب أن تنضج رؤيته إلى الآخر. وبتعبير أدقّ، يجب أن تنضج منهجية رؤيته إلى الآخر، ويجب أن يقاربه وفق وعيٍ مُعقلن، فالوعي إما أن يكون وعيًا أيديولوجيًا فنفهم الآخر وفق أحكام الذات، وهنا لا نترك مساحةً كافية لظهور مفهوم الفرد، لأننا نستنزف قواعد المفهوم في بناء المقاربات الهووية؛ أو وعيًا تواصليًا يقوم على عقلانيةٍ تواصليةٍ تساعد الذات على فهم الآخر، بالاستناد إلى حوارٍ مستمر معه، تكون الذات فيه فاعلةً ومنفعلة، تُغير وتتغير، أي أنها "تتذاوت".
كل من يعيش في الماضي إنما هو يعيش بشكلٍ "هووي". ومن هذا المدخل، يمكن إقامة 
التمييز الكبير بين الهووية التي تستند إلى المُتخيل الأيديولوجي، وتعيش في الماضي، وتصهر البشر في رابطة عصبوية؛ والفردانية التي تستند إلى العقلانية، تعيش في الحاضر وتستهدف المستقبل، تصنع روابط تقوم على التجسير، وتبني قاعدةً أخلاقية للمسؤولية. تنتج الأولى العنف وتعيد إنتاجه، فيما تشكل الثانية نواةً لقابلية الاجتماع السلمي، وللتشاركية والديمقراطية.
كان من المُفترض نظريًا، أو من المأمول، أن يؤدّي الحراك السوري الذي رفع شعارات تعدّدية حداثية إلى صعود مفهوم الفرد في المجال السياسي السوري. ولذلك كان من المفترض، ومن المأمول أيضًا، أن يؤدي هذا الصعود إلى بناء معنى جديد للفعل الاجتماعي. ويتسم هذا المعنى الجديد، لو تم ابتكاره، بالعقلانية، إذ كان أصله الفرداني سيقتضي أن يتجاوز الذهنية العصبوية بالضرورة، فلا يستند، في بنيته المفاهيمية والسلوكية، إلى مفاهيم سابقة على وجود الفرد، كالقومية والمذهبية والعشائرية والطائفية والإثنية، بل ينتقل من حيّزاتها المُحددة مسبقًا بالأيديولوجيات الإيمانية، إلى الأفق الوطني الرحب، وإلى الفضاء العمومي المُتسع، غير المتناهي، والذي يتناسب مع فكرة التعاقد الفردي الحر، ويتناقض مع الأُس "الهووي" الذي يهمّش رأي الفرد في موضوعات التفكير، ويصادرها لصالح أفكار الجماعة المُلقاة.
ولو قُدِّر لهذا النوع من الفعل الاجتماعي أن يتشكل، وكان ذلك ممكنًا، لقامت نوعية جديدة من علاقات الاجتماع السياسي، تقوم على التجسير الذي يشكل رابطة وطنية تعترف بالآخر وبكرامته بوصفه إنسانا. وبهذا، تنتهي روابط الصهر والتذويب التي تستمد قوتها من سطوة الجماعة واستبدادها. أي بكلمات أُخرى: لو نجح السوريون في صناعة الفرد، لنجحوا في صناعة القابلية السلمية للاجتماع السوري، وهذه الأخيرة هي حجر الزاوية في ابتكار وطنهم من جديد. ومن ثم كان هذا الابتكار سيؤدي إلى الاتفاق على مفهومٍ أكثر إنسانية للهوية، فتصير مَفهومةً خارج الحقل الدلالي العصبوي، وبتحرّرها من هذا الحقل تصبح الهوية ماهيةً غير 
ثابتة، متعدّدة المستويات والمراجع والقيم، ولا تقبل التفكير الأحادي، بل لا يمكن أن تعيش إلا في وسطٍ متشبعٍ بالفكرة التعدّدية، وبالعلاقات القائمة على العقلانية التواصلية التي تتجاوز الانتماء السابق على وجود الفرد، أيًا كان هذا الانتماء، على الرغم من أنها لا تلغيه.
وفي الحقيقة، نرى الفردانية السورية، بما تعنيه من بناء للفرد السوري، مَنضَجَةَ الفضاء العمومي، بما يعنيه من فعلٍ وتفاعل اجتماعي، وهذا الأخير هو مَنضَجَةُ الوطنية ومَنضَجة الهوية الوطنية. وتسمية مَنضجَة على وزن "مَفعَلَة"، وهو من أوزان أسماء الآلة، حيث نقارب مفهوم الفرد، ومفهوم الفضاء العمومي، بوصفهما أدوات/ آلات مهمة تقوم بإنضاج الوطنية، من ثم تعود هذه الأخيرة لتعمل على رفاه الإنسان وإنضاجه. بهذا المعنى، يكون الفرد السوري هو الواحد المُجرّد المُتعيَّن من خلال مفهوم المواطنوية، أي هو الإنسان المُتعيَّن من خلال الحضور الدائم للآخر، ولقناعات هذا الآخر المُعترف بها، وبحقه في اعتناقها، وفي الدفاع عنها، من دون شرط الاعتراف بصحتها، ومن دون فرض أي مرجعيةٍ محدّدةٍ لهذا الحكم، لكن القبول بتعدّدها ضمن الاتفاق الأخلاقي والعقد الاجتماعي.
هذا يعني أن مفهوم الفرد متعينٌ بوصفه مواطنًا سوريًا، هو مفهومٌ ناقص من دون مفهوم الجماعة السورية، فلا يتحدّد الفرد كاملًا إلا في تواصله مع الأفراد الآخرين، ولا تتحدّد المجموعة بدورها إلا من خلال الاعتراف الكامل بكلِ فردٍ من أفرادها بوصفه عنصرا منها، أي بوصفه من مكوّناتها، غيابه يجعل من المجموعةَ ناقصةً ومشوّهةً. واتحاد السوريين بهذا الشكل هو استقلال كل منهما استقلالًا تامًا، وهذا هو المعنى الأعمق لاكتمال الفردية، حيث يلتصق مفهوم الفرد بالآخر، فلا يكتمل إلا بوجوده وبـ"التذاوت" معه. وفقط عندما يكتمل، يكون مُستقلًا ومن ثم حرًا. وهكذا يمكن القول إن المواطنوية هي المعادل الموضوعي للحب في المجال العمومي. والفرد بالضرورة كائنٌ ما بعد "هووي"، هشٌّ بالمعنى الذي يفيد تغيره باستمرار، عابرٌ لفرديته، ولا يكتمل مفهوميًا، إلا من خلال استخدامه فن التواصل مع الآخر، ليجعل حضوره عقلانيًا، فيتكامل مع هذا الآخر، تكامل قوّتين كل منهما موجبة وسالبة في الوقت نفسه، والأهم أنه يتكامل معه تكاملًا يتسبّب في استقلاله استقلالًا تامًا، وهذا أهم مدخل إلى الحرية.
المواطن السوري اليوم، في ظل افتقار السوريين للدولة، وفشلهم في العمل الجماعي، هو الفرد السوري متعيّنًا في منظومة تفكير عقلانية تواصلية. ومن ثم، بهذا المعنى، لا يمكن مذهبة مفهوم الفرد، فالفردانيّة بوصفها مذهبا ستتناقض مع المواطن بوصفه إنسانا حرّا يمارس حريته بالتواصل، وبالعمل على ضمان حرية الآخرين أداة لضمان حريته الشخصية. ولذلك، سورية بحاجةٍ لفردٍ عربي، وفردٍ كردي، وفردٍ مسلم، وفردٍ مسيحي، وما إلى هنالك من انتماءاتٍ واعية حرّة، وليس لقطيعٍ كردي، أو قطيع عربي أو رعايا وتابعين.. فمجموعة الأفراد الأولى قابلة لابتكار وطن، أما مجموعة العصبويات الثانية فتنتج الفشل، وتعيد إنتاجه، تتكوّر حين تريد الانفتاح، وتتقوقع أكثر حين تريد الانطلاق.
B4769262-978B-41E7-8365-77B95D66AED6
مضر رياض الدبس
باحث وسياسي سوري، الرئيس السابق لحزب الجمهورية السوري، له دراسات وأبحاث منشورة، ومن كتبه: مفهوم المواطنة أو صورة السيتزنية في المستقر الإيماني، وفي ضوء الألم، تفكير في بنى الاجتماع السياسي السوري، وعقل الجهالة وجهل العقلاء