كافرون أم باحثون؟

كافرون أم باحثون؟

31 ديسمبر 2019

(منير الشعراني)

+ الخط -
جاء الوحي يخبر النبي عن المنافقين، أخبر عن صفاتهم، آمنوا واقتنعوا وتيقّنوا من صدق الرسالة، ثم كفروا. جحودا وإنكارا واستكبارا، يظهرون الولاء، وفي الخفاء يسخرون من النبي. فضحهم الله أمام أنفسهم، فهموا، جاءوا إلى النبي، سألوه أن يستغفر لهم، فاستغفر لهم، نزل الوحي ثانية: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرّة فلن يغفر الله لهم، ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله، والله لا يهدي القوم الفاسقين". مات عبد الله بن أبي بن سلول، رأس المنافقين، رأس من لا يستحقّون المغفرة، بنصّ الكتاب، جاء ابنه إلى النبي، سأله قميصه ليكفّن فيه أباه، أعطاه النبي قميصَه، طلب منه أن يصلّي على أبيه، قام النبي ليصلي، حاول عمر بن الخطاب منعه، ذكّره بأن الله نهاه، فقال النبي إنما خيّرني ربي وقد اخترت، "استغفر لهم (أو) لا تستغفر لهم" اعتبرها النبي تخييرا بين الاستغفار وعدمه. الآية واضحة، والنبي أفصح العرب. وعلى الرغم من ذلك، بحث لهم عن مخرج، "إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم". كلام واضح، الرقم للكثرة، ليس مقصودا في ذاته، هكذا كان يستخدمه العرب، النبي يعلم، وعلى الرغم من ذلك يقول: سأزيده على السبعين، سأستغفر لهم سبعين وسبعين، لمن؟ للمنافقين، لمن؟ لمن سخروا منه ومن ربّه ومن رسالته؟ لمن؟ لعبد الله ابن أبي بن سلول، الذي رأى في نفسه "الأعزّ" ورأى في النبي الأذلّ، الذي آذى النبي في كل شيء، وآلمه في كل شيء، في دعوته وفي زوجته، خاض في عرض عائشة، اتهمها بالزنا، روّج الإفك، نزل الوحي بفضحه. الآن يقف النبي علي قبره، ويكفّنه في قميصه، ويستغفر له ويصلّي عليه، نزل الوحي ثانية ليذكّره بأفعالهم وينهاه عن الصلاة عليهم.
حيّرت هذه الواقعة الشهيرة المفسرين، كيف لم يفهم النبي أن سبعين مرّة للكثرة؟ كيف لم يفهم نهي الله له عن الاستغفار لهم؟ كيف دعا للمنافقين الكافرين بعد أن أخبره الوحي بحقيقتهم؟ ذهبوا مذاهب شتّى ليفهموا المفارقة. قال بعضهم: فهم النبي، لكنه فعل ذلك تطييباً لخاطر عبدالله بن عبد الله بن أبي بن سلول، وكان صحابيا مخلصا. قال آخرون: بل الآية تحتمل التخيير. قال فريق ثالث إنما هي رقّته ولطفه ورحمته. عجز بعضهم عن فهم ما حدث فأنكر الواقعة. اختلفوا، لكن ما حدث حدث، فعلها النبي، تلك أخلاقه، رحمته، فطرته، تكوينه النفسي السويّ، نبي الرحمة.
الآيات، بالمناسبة، نزلت في فريقٍ بعينه، كان النبي يعلمُهم بالأسماء، لم يفضحهم، لكنه أخبر حذيفة عنهم، وأمره بكتمان سرّهم. وكان حذيفة بعد موت النبي لا يمشي في جنائزهم، وكان عمر يراقبه في كل جنازة، فإن رآه تراجع، علم أن الميت منهم، وتراجع بدوره. الجريمة هنا، كما تشير الآيات، ليست إنكار الرسالة في المطلق، إنما الكفر بها بعد التيقّن من صحّتها، وذلك هو تعريف الكافر، كما يشير إليه الشيخ محمود شلتوت في كتابه "الإسلام عقيدة وشريعة": إنكار المرء العقائد بعد أن وصلت إليه بشكل صحيح، و"اقتنع بها فيما بينه وبين نفسه، لكنه أبى أن يعتنقها ويشهد بها عنادا واستنكارا، أو طمعا في مالٍ زائلٍ أو جاهٍ زائف، أو خوفا من لوم فاسد، فإذا لم تبلغه تلك العقائد، أو بلغتْه بصورة منفرّة، أو صورة صحيحة ولم يكن من أهل النظر، أو كان من أهل النظر ولكن لم يوفّق إليها، وظل ينظر ويفكر طالبا للحق، حتى أدركه الموت في أثناء نظره، فإنه لا يكون كافرا يستحق الخلود في النار عند الله". "والشرك الذي جاء في القرآن أن الله لا يغفره، هو الشرك الناشئ عن العناد والاستكبار.. الذي قال الله في أصحابه "وجحدوا بها واستيقنتها أنفسُهم ظلما وعلوّا". هؤلاء هم من نهى الله عن الاستغفار لهم والصلاة عليهم، لا الباحثون، بصدق، صلى الله على محمد، ورحمة الله على الصادقين.