شابّاتهم وعجائزنا

شابّاتهم وعجائزنا

31 ديسمبر 2019

رئيسة الحكومة الفنلندية، الثانية على اليمين، وثلاث وزيرات (10/12/2029/Getty)

+ الخط -
بات مألوفا في المجتمعات الإسكندنافية أن تتصدّر نساء شابات العمل السياسي القيادي، ويصلن إلى سدة الحكم وقيادة الأحزاب، ففي الدنمارك هناك سيدة في موقع رئاسة الوزراء (ميتي فريدريكسون، 41 عاما، أصغر رئيسة وزراء في تاريخ الدنمارك)، وهناك سيدة تحكم في النرويج (إرنا سولبرك من مواليد 1961). أما في فنلندا فقد وصلت شابة إلى موقع رئاسة الوزراء (سانّا مارين، 34 عاماً) لتكون أصغر رئيس وزراء في تاريخ البلاد، وربما في العالم، وهي تحكم بموجب تحالف بين خمسة أحزاب، تقودها جميعها نساء، أعمار أربع منهن بين 32 و34 سنة. وفي السويد، ما زال مركز رئيس الوزراء من نصيب الرجال. على الرغم من محاولات كثيرة، عملت على تجاوز هذا التقليد غير المنصوص عليه قانونيا. ولكن هناك ثلاثة أحزاب أساسية، الوسط، والديمقراطي المسيحي، والبيئة، تقودها نساء شابّات؛ هذا إلى جانب وجود النساء في المراكز القيادية الحساسة في الأحزاب الأخرى. وهناك تقسيم بالمناصفة تقريبا بين النساء والرجال في البرلمان والوزراة، بالإضافة إلى البرلمان الأوروبي. وسيدة تمثل السويد في المفوضية الأوروبية. وتستعد السويد مستقبلا لحكم ملكة، علما أن لدى الملك ابنا، ولكن القانون السويدي يقرّ بحق الأكبر سنا من أبناء الملك وبناته أن يكون ولي العهد، بغض النظر عن الجنس.
هذه الظاهرة هي حصيلة جملة مقدّمات، تراكمت نتائجها تباعاً في المجتمعات المعنية خلال فترة قصيرة نسبياً، قياساً إلى عمر التحولات البنيوية المجتمعية الكبرى، فقبل نحو قرن، لم يكن من حق المرأة التصويت في الدول المشار إليها (حصلت المرأة على حق التصويت في الانتخابات البرلمانية في فنلندا عام 1906، وفي النرويج عام 1913، وفي الدنمارك عام 1915؛ وفي السويد حصلت المرأة على حق التصويت بين عامي 1919 و1920). أما 
اليوم، فالمرأة في البلاد المذكورة هي في كل مكان، تثبت أهليتها وجدارتها، بل وتفوّقها في جميع المجالات، وعلى سائر المستويات، فدور المرأة في الحياة السياسية والعامة إلى جانب أدوارها في ميادين العمل والنشاطات الرياضية والفنية والاجتماعية والثقافية. بات ذلك كله جزءاً من المألوف البدهي الذي لا يحتاج إلى أي إثبات أو برهان. ولكن اللافت في السنوات الأخيرة هو تصدّر النساء الشابات المشهد، الأمر الذي يؤكد وصول هذه المجتمعات إلى قناعةٍ تامةٍ بضرورة تجديد المؤسسات والآليات الديمقراطية، لتكون في مستوى التحدّيات المستجدّة، وقادرة على التعامل مع المسائل الكبرى، وإيجاد الحلول للمشكلات التي باتت علامةً فارقة لعصرنا الرهن؛ ومنها مسائل البيئة ومشكلاتها، وواقع الثورة الصناعية الرابعة ومستقبلها، وتصاعد النزعة الشعبوية، وتنامي الميول القوموية الانعزالية، ومصير العولمة، خصوصا في بعدها الاقتصادي، في زمن التشدّد في بناء الجدران، واللجوء إلى سلاح الحواجز الجمركية.
والأمر الذي يستوقف هو أن التركيز على الشباب يتم في وقتٍ يرتفع فيه معدل متوسط الأعمار في هذه المجتمعات، ما دفع مسؤوليها إلى مناقشة، بل واتخاذ القرارات، وسن القوانين الخاصة برفع سن التقاعد إلى حدود السبعين، وذلك لتأمين المستوى المعيشي اللائق للأعداد الكبيرة المتزايدة من المسنّين في المجتمعات المذكورة.
وإذا انتقلنا إلى المجتمعات الفتية، ومنها مجتمعاتنا، نجد أن الصورة عكسية تماماً، وهي تعبّر 
عن واقعنا، وطبيعة القواعد والعقليات التي تتحكّم بمفاصل الدولة والمجتمع عندنا، فالأحزاب، بغض النظر عن حجمها وتأثيرها، باتت تختار زعماءها إلى الأبد. والحكام الذين يستولون على مقاليد الأمور بشتّى الطرق، ما عدا الشرعية منها، يخططون للبقاء في الحكم، وإلى الأبد، ولا يتكررون إذا غيبهم الموت، أو أنهكهم المرض. أما التداول السلمي للسلطة، فقد بات طرفة الطرائف. وأصبحت الانتخابات الهزلية جزءاً من الفولكلور المطلوب، لإضفاء مسحةٍ قبيحةٍ من الشرعية الزائفة على خيارات أركان الدولة العميقة وتوافقاتها.
هذا في حين أن دور المرأة في ميدان السياسة ما زال ينحصر في إطار الاستعراض التزييني، والتضليل الإعلامي، فما نسمعه من أحاديث تشيد بحرية المرأة في مجتمعاتنا، وما نراه من بروز نساءٍ في الميادين السياسية والعسكرية، وحتى الثقافية والاقتصادية، لا يُعتدّ به، ولا يتجاوز دائرة العمل الدعائي الذي يعدّ جزءاً من عدّة الشغل التي يستخدمها الرجال المتحكّمون بالمفاتيح والمصائر والمسارات. بينما في الواقع العملي، ما زالت المرأة مادة للاستغلال والاضطهاد بكل أشكاله، تتعرّض للعنف الأسري، والاستغلال الاقتصادي، وغالباً ما تكون موضوعاً للاستغلال الجنسي في ظروف وحالات شتى، وتحت مسمّيات مختلفة. نسبة الأمية بين النساء هي الأعلى، وكذلك نسبة البطالة.
ومع ثورات الربيع العربي الأولى، تبين للجميع أن المحرك الأساسي لكل تلك الثورات، سواء في تونس أو في مصر وليبيا واليمن وسورية، كانوا هم الشباب، هؤلاء الذين تيقّنوا من انسداد 
الآفاق أمامهم، في ظل أنظمة الحكم الأبدي في الجمهوريات العسكرية الأمنية؛ وكان اللافت إسهام الشابّات بأعداد متزايدة في المظاهرات والاعتصامات التي كانت تعتبر فرصة لهن للتعبير عن معاناتهن المزمنة المؤلمة، والتعبير عن رغبتهن في الانعتاق والتحرّر، والمشاركة الفاعلة في بناء أوطانهن، وتطوير مجتمعاتهن، وتأمين مستقبل أفضل لأبنائهن وأحفادهن. كن مبعدات مهمّشات، باعتبارهن ينتمين إلى فئة الشباب، ومستبعداتٍ، في الوقت نفسه، لاعتباراتٍ تخصّ جنسهن. وعلى الرغم من كل التضحيات التي كانت، تمكّن رجال الثورات المضادّة، العجائز وأنصارهم، من العودة إلى مراكز القرار، لأسبابٍ كثيرة، في مقدمتها الدعم الخارجي، وبفعل الخبرات والإمكانات التي كانت لديهم نتيجة عقود من العمل السلطوي، أو الحزبي التضليلي الشللي.
لقد تمكّن هؤلاء من العودة إلى الحكم، وعلى حساب إبعاد الشبان والشابات، الأمر الذي أدّى إلى تراجع الآمال، وطغيان تشاؤم المقهور، خصوصا في ظل هيمنة قوى التطرّف الديني والقومي. ولكن ثورة الشباب لم تهزم، بل اتخذت أشكالاً أخرى، واستمرّت في مجتمعات أخرى، فكانت المظاهرات والاعتصامات الشبابية في الجزائر والسودان، لتنتقل لاحقاً إلى العراق ولبنان؛ ومرجّح أن تنتقل إلى بلدان أخرى، بل من شبه المؤكد أنها ستتجدّد في البلدان الأولى التي انطلقت منها؛ فمجتمعاتنا بصورة عامة تعاني من أزماتٍ بنيويةٍ مصدرها الدكتاتورية الفاسدة المفسدة التي كانت، وما زالت، أساس كل الشرور.
مشكلاتنا عميقة الجذور، مترامية التأثير. وقد اعتقد المتفائلون منا أن الخلاص سيكون ممكناً عبر مخاطبة المشاعر الوطنية والنيات الطيبة، والدعوة إلى الاستفادة من تجارب الآخرين؛ إلا أن ذلك كله لم يُجد نفعاً؛ فما زال للقديم المحتضر أنصاره وأتباعه من الذين استفادوا ويستفيدون منه؛ وليس في نيتهم ترك المواقع والامتيازات طواعية، خصوصا بعد أن تمكّنوا من ترتيب أوراقهم مع القوى الإقليمية والدولية التي لا تهتم كثيراً، إنْ لم نقل لا تهتم أبداً، بتضحيات الشعوب وتطلعاتها، بقدر ما تسعى من أجل تحقيق مصالحها التي تعمل على ضمانها عادةً عبر تكليف زمرةٍ هنا، وزمرةٍ هناك، للتحكّم برقاب العباد ومصائر البلاد، وإلى أمدٍ غير منظور، طالما أن الالتزام بشروط الصفقة مستمر.
هل ستبقى الأمور هكذا؟ وهل على شبابنا وشابّاتنا أن يقطعوا الأمل، ويبحثوا عن المستقبل في بلاد الناس؟ أو يستسلموا مرغمين لنزوات الحكام ورغباتهم وأجهزتهم بكل أسمائها وتمظهراتها؟ تؤكد تجارب الشعوب العكس. أما تجارب منطقتنا فقد أكّدت استمرارية الاستبداد في ظل تحالف وثيق بين أيديولوجياتٍ تبدو متنافرة، في مواجهة شبابنا الذين يقارعون المستحيل من أجل مستقبلٍ أفضل، يرتقي إلى مستوى إمكاناتهم وأحلامهم المشروعة.
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
8801BA5A-2E79-4DFD-ACA8-06C922BECC8F
عبد الباسط سيدا

كاتب وسياسي سوري، دكتوراه في الفلسفة، تابع دراساته في الآشوريات واللغات السامية في جامعة ابسالا- السويد، له عدد من المؤلفات، يعمل في البحث والتدريس.

عبد الباسط سيدا