المبدعون لا يدخلون الجنة

المبدعون لا يدخلون الجنة

31 ديسمبر 2019

(ضياء العزاوي)

+ الخط -
المبدعون تعساء، يعيشون جحيماً متصلاً، فهم في صراع مستمر مع واقعهم سياسياً واجتماعياً وثقافياً، فهم لا يستطيعون أن يخونوا إبداعاتهم، ولا يستطيعون أن يُزّيفوا وعي الناس. ولهذا يجري إقصاؤهم وتهميشهم وتشويههم، في عقوبة قد يصل مداها إلى ما بعد الممات، فَيُرفض، مثلاً، أن يُصلّى عليهم، كما حدث مع مبدعنا الكبير نزار قباني. فبزعم أنه ملحد، لا تجوز عليه الصلاة أو الرحمة، وقُبيل جنازته، دار جدل واسع بشأن جواز الصلاة عليه من عدمها، في مشهدٍ عبثيٍّ بامتياز.
والأمثلة متعددة على عقاب المجتمع والسلطة للمبدع، وحرمانه حتى أبسط حقوقة الحياتية، وجعله يعيش في جحيم مستمر. مثالاً، مبدعنا الكبير المخرج توفيق صالح، وهو قيمة وقامة سينمائية هامة في عالمنا العربي. لأنه لم يكن يساوم على فنه، ولا يتنازل عن وجهة نظره، اصطدم كثيراً بالسلطة عندما قَدّم فيلمه المهم "المتمرّدون" (1968)، الذي يطرح نقداً قاسياً لمرحلة هيمنة الحزب الواحد في الستينيات. ويُبرز المفارقة المرعبة بين ما كان يبشّر به النظام الاشتراكي ليوتوبيا مجتمعية وما كان يجري على أرض الواقع من استغلال واستبداد وظلم اجتماعي، وذلك من خلال مصحّةٍ تعاني من شحّ المياه، فتقرّر إدارة المستشفى وطبقة الأطباء الاستئثار بالماء وحدهم، وترك المرضى لمصيرهم المحتوم. يثور المرضى على الإدارة، ويستولون على مقاليد الأمور. لكن بالتعاون مع السلطة المركزية، تعود الإدارة إلى قمع المرضى واضطهادهم، ويعود الوضع كما كان.
"المتمرّدون" هو الفيلم المصري الوحيد الذي أثار مشكلة المياه، وعنصرية توزيعها، ولنتذكر، مع اختلاف التفاصيل، أزمة سد النهضة الذي تبنيه إثيوبيا حالياً، والخوف من سنوات الجفاف وعطش المصريين منذ إنتاج الفيلم في عام 1968، كما لو كان هذا الفيلم قد تنبأ بما سيؤول عليه الوضع من سوء. اضطر توفيق صالح، نتيجة صدامه المباشر مع السلطة، إلى أن يسافر إلى سورية ويقيم فيها، ثم سافر إلى العراق. عاد إلى مصر بعد أن هدأت الأوضاع في منتصف الثمانينيات، على أمل أن يتابع طموحه الفني، لكنه أُقصي عن الإخراج ثلاثين عاماً، ليعيش جحيم الانزواء وحرمانه الإبداع.
وهناك المخرج الكبير سعيد مرزوق، على الرغم من النجاح الذي حققه، إلا أن جرأته في اقتحام مناطق محظورة في السينما المصرية أوصلته إلى الاصطدام أيضاً بالسلطة، بشأن فيلميه المهمّين "المذنبون" و"إنقاذ ما يمكن إنقاذه". وشكل الفيلم الأول الذي أنتج في عام 1975 صدمة قاسية، نظراً لما تضمنته مشاهده من نقد قاسٍ لمرحلة السبعينيات، بفسادها المستشري. قصته عن مقتل راقصة، بعد حفلة ماجنة، كانت تضم أطيافاً متنوعة من المجتمع المصري. وفي أثناء التحقيق لمعرفة القاتل الحقيقي، تُكتشف جرائم أشد خطورة من واقعة القتل نفسها. قامت الدنيا ولم تقعد، اتُّهم الفيلم بأنه يشجّع الانحلال الأخلاقي، ومُنع من استمرار عرضه، وحُوّل موظفو الرقابة إلى التحقيق معهم، وفي مقدمتهم رئيسة الهيئة العامة للرقابة على المصنفات الفنية في حينه، اعتدال ممتاز. ولم تنسَ السلطة في مصر مشاغبات سعيد مرزوق، فحاصرته بألاعيب شتّى، أدت إلى إهماله وتهميشه. مرض واضطر إلى بتر ساقه، ليصبح مُقعداً في عزلة، ثم فارق الحياة وحيداً، من دون أن يحصل على ما يستحقه مقامه الفني المهم من تكريم.
ونتذكر ممدوح شكري، مخرج فيلمه الوحيد المهم "زائر الفجر" الذي تضمّن تحليلاً اجتماعياً وسياسياً لهزيمة 1967. صادرته الرقابة ومنعته من العرض. مات مخرجه كمداً وقهراً، قبل أن يرى فيلمه النور عام 1975. عرض الفيلم بعد حذف عشرين مشهداً.
حقاً يعيش المبدع الحقيقي في جحيم، ويُودّع ذلك الجحيم، بعد أن يُدرك أنه لا مكان له في جنة الأرض، فالمبدعون لا يدخلون الجنة.
A3DF164F-0093-4643-AB16-009309265964
A3DF164F-0093-4643-AB16-009309265964
هشام عبد الحميد

ممثل مصري، أدوار بطولة في أفلام ومسرحيات ومسلسلات، وعدة جوائز

هشام عبد الحميد