تونس.. نحو حكومة اجتماعية

تونس.. نحو حكومة اجتماعية

04 ديسمبر 2019
+ الخط -
تفيد معطيات راشحة من "دار الضيافة" في قرطاج بأنه يتم وضع اللمسات الأخيرة لبرنامج الحكومة التونسية الجديدة التي يرأسها الحبيب الجملي، المكلف من رئيس الجمهورية، قيس سعيد، والمرشح من حزب حركة النهضة لتشكيلها باعتباره الحزب الفائز بأكثر المقاعد في البرلمان الجديد (54 مقعدا). وتجمع المعطيات على أن البرنامج الذي ستنفذه هذه الحكومة، والمتوقع عرضه على جلسة برلمانية عامة، قبل 15 من شهر ديسمبر/ كانون الأول الحالي، لنيل الثقة، يحمل شعار "نحو حكومة اجتماعية بامتياز". 
وانطلاقا من مفاهيم دولية، فإن الحكومة الاجتماعية هي التي تهتم بالعمل على الحد من الحالات والأوضاع التي تؤثر سلبا على رفاهية الشعب، على أساس رسم سياسة للحماية الاجتماعية، تساهم في تحقيق التنمية المستدامة والنهوض بالعدالة الاجتماعية وضمان حق الجميع في التمتع بمختلف المنافع الاجتماعية التي نصّت عليها منظومة حقوق الإنسان واتفاقية العمل الدولية عدد 101 لسنة 1952 حول المعايير الدنيا في مجال الضمان الاجتماعي. هذه الحقوق التي أقرتها كذلك الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة في 2015، وتنص على "الالتزام المشترك للدول الأعضاء بوضع أنظمة وإجراءات، من أجل حماية اجتماعية شاملة ودامجة"، تأخذ الاعتبار الخصوصيات الوطنية لكل بلد. كما يعني هذا الالتزام المشترك الاتفاق الدولي بين ممثلي 
الحكومات وممثلي أصحاب العمل والعمال لجميع الدول، لتوسيع أنظمة الضمان الاجتماعي لجميع شرائح المجتمع، وفقا لما نصت عليه التوصية الصادرة عن مؤتمر العمل الدولي عدد 202 لسنة 2012. وبالحفر في مصطلح الحماية الاجتماعية، فإن من مفاهيمه الأكثر تداولا السياسات الاجتماعية أو الضمان الاجتماعي أو التأمين الاجتماعي او شبكات الأمان الاجتماعي، وصولا إلى الحماية الموجهة للفئات الاجتماعية أو الأفراد الأشد فقرا أو المعرّضة للإقصاء والتهميش الاجتماعي، من خلال تمكينهم من تحويلاتٍ ماليةٍ مباشرةٍ وتغطيةٍ صحيةٍ مجانيةٍ من الدولة. ذلك أن التقرير الدولي حول الحماية الاجتماعية الصادر عن منظمة العمل الدولية 2017 – 2019 يتضمن معطيات أساسية، منها بالخصوص أن 55% من مجموع سكان العالم لا ينتفعون بأيٍّ من خدمات الحماية الاجتماعية، ولا تغطي أنظمة الضمان الاجتماعي التي تستجيب للمعايير الدولية إلا 29 % من سكان العالم. ويرجع التقرير ضعف التغطية بالضمان الاجتماعي إلى قلة الاستثمار في مجال الحماية الاجتماعية، وخصوصا في أفريقيا وآسيا والدول العربية.
وبالعودة إلى الراهن التونسي، دعا الشعار الذي رفعته الأحزاب الفائزة في انتخابات 2019 إلى ضرورة إرساء منظومة وطنية شاملة للحد من الفقر. ولعل هذا الشعار هو الذي أدّى إلى فوز حزب قلب تونس بالمرتبة الثانية في الانتخابات البرلمانية (38 مقعدا). كما حاز الشعار نفسه حيزا واسعا في البرنامج الانتخابي لحزب حركة النهضة، وهو البرنامج الذي انطلق منه رئيس الحكومة المكلف لوضع برنامج حكومته الجديدة.
ويجدر التذكير هنا بأن الدولة التونسية قد عنيت، منذ حكومة الاستقلال الأولى (1956) برئاسة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، بالملف الاجتماعي تحت عنوان "تونس الاجتماعية"، فقد وضعت هذه الحكومة منظومةً اجتماعيةً، من مقوماتها بعث "الاتحاد التونسي للتضامن الاجتماعي"، والذي لعب دورا كبيرا في العناية بالفئات الاجتماعية الفقيرة والمعوزة ومحدودة الدخل. كما اهتمت هذه الحكومة والحكومات التي تلتها في الجمهورية الأولى (1957 – 2011) بالفئات ذات الاحتياجات الخصوصية من حاملي الإعاقة والمعطلين من العمل والأرامل والطفولة فاقدة السند والمرأة الريفية وغيرها، ناهيك عن إقرار مجانية التعليم وإجباريته وتوفير الخدمات الصحية. وانطلاقا من أواخر سبعينات القرن الماضي، شهد منوال التنمية في تونس جمودا ملحوظا وعجزا عن تلبية متطلبات النمو الديمغرافي ونسق التنمية الشاملة، ما أدى إلى تراجع دور الدولة الاجتماعية الراعية، وانحساره في الحماية الاجتماعية لرعاياها. وقد فرض هذا الواقع التنموي الصعب جملةً من التحديات، زاد من عمقها السياق الاقتصادي والاجتماعي الدولي المتسم بتحولاتٍ متسارعة، ناجمة أساسا عن العولمة التي أثّرت بعمق على نظم الإنتاج والعمل وارتفاع نسب البطالة والفقر في أغلب الدول النامية، ومنها تونس، علاوة على تفشّي ظاهرة العمل غير المنظم وضعف الحماية الاجتماعية، ما جعل هذه الدول تجابه صعوبات جساما في سعيها إلى تحقيق التنمية بمختلف أبعادها.
وفي الحالة التونسية تحديدا، ظلت هذه التحديات الاجتماعية محل اهتمام حكومات ما بعد الثورة، ولكن مؤشرات الفقر سجلت ارتفاعا لتتجاوز الـ 25%، وبلغت نسبة البطالة 15.1%. ومع حكومة يوسف الشاهد التي تشكلت في أغسطس/ آب 2016، تضافرت سياسات تونس الاجتماعية والاقتصادية عبر جهود مشتركة بين الأطراف الاجتماعية والحكومة، لتحقق جملة من الأهداف التي رسمها مخطط التنمية الخماسي للفترة 2016 – 2020، ما أثر إيجابا في اتجاه ظهور بوادر حلحلة الوضع الاقتصادي والاجتماعي. وقد تمثل ذلك في النهوض بالتشغيل، عبر 
استراتيجية وطنية للعمالة الكاملة، أولت المبادرة الخاصة مكانة متميزة، على غرار الوظائف الخضراء والاقتصاد الاجتماعي التضامني، مع العمل على تحقيق المساواة في التشغيل بين مختلف فئات المجتمع، وتوفير العمل اللائق للنساء والرجال، وخصوصا الشباب منهم من حاملي الشهادات العليا، ومنح الأولوية لحاملي الإعاقات. كما تميزت هذه الفترة بوضع الأرضية الأساسية لمنظومة الحماية الاجتماعية، تضمن لكل مواطن تونسي حدّا أدنى من العيش الكريم من دخل مضمون وتغطية صحية ومسكن لائق وتعليم مجاني للأطفال. علاوة على رقمنة منظومة التأمين الصحي، وتعميمها على أكثر من ثلاثة ملايين ومائتي ألف مضمون اجتماعي. ولعل من أهم منجزات هذه المرحلة البرنامج الوطني للحد من الفقر متعدّد الأبعاد الذي أعطى مفهوما شاملا للفقر، بما سهل إيجاد المعالجات من خلال تناول المسألة بصفة علمية. وكان من نتائج هذا البرنامج إعادة تحيين بنك المعطيات الوطني عن الفقر، من خلال مقاربة جديدة، تعتمد مقاييس متعدّدة لهذه الظاهرة، وتطوير برامج وآليات للحد منها، وتقليصها إلى أدنى الحدود، ووضع تشريع أصبح بموجبه المواطن الفقير قادرا على المطالبة أمام القضاء بحقه في أسباب العيش الكريم والدخل الأدنى المضمون والتغطية الصحية والمسكن اللائق والتعليم المجاني لأطفاله.
وعلى الرغم من هذه الجهود، أثّر ما شهدته تونس، خلال فترة حكومة الشاهد، من هزّات اجتماعية وإضرابات عن العمل وتجاذبات سياسية، سلبا على الوصول بهذه الإصلاحات إلى نتائجها المرجوّة، ما جعلها غير مفعلة أحيانا على صعيد الواقع المعيش للمواطن، ناهيك عن التعريف بها لدى الرأي العام، على الرغم من التفاعل الإيجابي للمنظمات الدولية معها، وفي مقدمتها منظمة العمل الدولية التي نوّهت، في تقريرها السنوي أخيرا، بإرساء سياسة الديمقراطية الاجتماعية في تونس.
وإذن، يمكن لحكومة الحبيب الجملي الاستفادة من هذه الأرضية، والانطلاق منها إلى مدى أرحب لمواصلة الإصلاحات، وتكريسها واقعا معيشا للمواطن التونسي الذي أصبح يتهم السياسيين بالتغوّل والابتعاد عن إيجاد الحلول لأوضاعه الصعبة، بمختلف تجلياتها. وعسى أن يتمكّن الجملي من استغلال هذه الأرضية الإيجابية لجعل حكومته اجتماعيةً قادرةً على مجابهة التحديات التي تعيشها البلاد.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي