في وداع 2019

في وداع 2019

30 ديسمبر 2019
+ الخط -
قليلة الأعوام التي تتغير فيها أحوال الشعوب، وتترك بصمة في التاريخ. ويبدو أن عام 2019 الذي يطوي صفحاته، ويلملم أوراقه، أحد هذه الأعوام المفصلية، على الرغم من أن تأثيراته وبصمته لم تظهرا كاملتين بعد. غير أنها ليست المرة الأولى التي تتباطأ فيها مفاعيل أعوامٍ مثلت محطاتٍ مهمةً في تاريخ العالم، فما بدأه ميخائيل غورباتشوف عام 1985 بتطبيق البريسترويكا والجلاسنوست (الانفتاح والمكاشفة)، كان المعول الأساس في تفكيك الدولة السوفييتية وانهيار المعسكر الشرقي. تماماً كما أحدث السلام المصري الإسرائيلي عام 1979 زلزالاً أفضى إلى شرخٍ عميق في التلاحم العربي، هيأ لاحقاً وضعاً مواتياً لغزو العراق الكويت عام 1990.
قد يرى بعضهم أن 2019 الذي يهم مغادراً ليس سوى أحد السنوات العجاف المتكرّرة في التاريخ العربي. ولكن ما تضمنه من أحداث وعلامات أعمق وأبعد أثراً من كونه عاماً صعباً أو ثقيلاً على العرب، ففي هذا العام وقعت أحداثٌ وتطوراتٌ كل منها كفيلٌ بتغيير التاريخ، وتحويل مسار أمم ودول.
من أهم أحداث 2019 تلك الموجة العالية من الاحتجاجات التي ضربت لبنان والجزائر والعراق والسودان. صحيح أن الغضب الشعبي في هذه الدول لم يظهر فجأة، وليس وليد هذا العام، إلا أنه تطور خلال 2019 إلى غضبٍ واسعٍ واستياء عام من الوضع السياسي، ورفض جذري للطبقة السياسية برمتها. ورغم أن الأوضاع لم تستقر بعد في تلك الدول، إلا أنها تقترب من مرحلة الحسم، سواء في الدول التي استقرّت مبدئياً على خريطة طريق، وهي السودان والجزائر. أو التي لا تزال تسودها احتجاجاتٌ مثل العراق ولبنان، فحالة الغليان السائدة في البلدين غير قابلة للاستمرار طويلاً.
وكما مثّل عام 2011 منعطفاً جوهرياً في سيرورة تاريخ شعوب المنطقة، لا تزال تعيش أصداءه وتجلياته، فإن 2019 سيمثل بدوره محطة مهمة ونقلة جديدة في هذا المسار. من جديد هذا العام انكشاف حقيقة مواقف وسياسات كانت تتجمل وتناور، فقد كانت السياسات الأميركية تتلون وتراوغ بين العرب وإيران. قبل أن تواجه في 2019 بمناطحة إيرانية، وتحذيرات عملية من تفجير الموقف، فإذا بواشنطن تتراجع عن التصعيد والتهديد والوعيد، لينتهي العام بما يشبه الاتفاق على تجنب المواجهة والتركيز على نقاط التوافق ومساحات العمل المشتركة.
ومن شأن هذا التحوّل الكاشف لضعف الإدارة الأميركية وتلاعبها، أن يحرم واشنطن من فرصة تكرار خداع العرب مجدّداً، خصوصاً بعد التقاعس عن دعم الموقف العربي في الملفات المتقاطعة مع دور إيران وتحرّكاتها الإقليمية، كما في اليمن ولبنان والعراق. وعندما تعرّضت ناقلات نفط لعمليات تفجير في الخليج، ثم الاعتداء على مجمع نفط "أرامكو"، فقد فضح الخذلان الأميركي للعرب حقيقة السياسة الأميركية وتواطؤها.
ونتيجة مرافقة لهذا التخلّي الأميركي، قامت روسيا بدخول هجومي على المنطقة. وعلى الرغم من أنه هجوم تعاوني سياسي وتقني وتسليحي، إلا أنه أكثر أهميةً من الهجوم العسكري الفعلي الذي دخلت به موسكو على خط الأزمة السورية قبل أربعة أعوام، ففي 2019، تبلورت بوضوح رؤية روسية براغماتية لأهمية وكيفية العودة إلى المياه الدافئة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وهي الرؤية التي بدأ يجسّدها تعاون روسي عربي، بدءاً من صادرات الأسلحة الروسية، مروراً بالتعاون النووي، انتهاء بقواعد وتسهيلات عسكرية لروسيا في بعض دول المنطقة.
قد لا تظهر تداعيات هذه التطورات المهمة في القريب العاجل، لكن المؤكّد أنها ستُحدث تغييراً كبيراً في أوضاع المنطقة وتفاعلاتها البينية والخارجية، وإنْ بعد سنوات. وحينها سيتذكّر العالم ويدرك العرب أن تلك التحولات العميقة قد تم تدشينها في عام 2019.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.