سورية 2019.. تصعيد عسكري وأفق غائب ولجنة دستورية مشلولة

سورية 2019 .. تصعيد عسكري وأفق غائب ولجنة دستورية مشلولة

30 ديسمبر 2019

أطفال نازحون في قرية حربنوش شمالي إدلب (28/12/2019/الأناضول)

+ الخط -
مضى العام 2019 ثقيلاً على صدور السوريين، مع غياب أي أفق لحل سياسي، وتصعيد الهجمات العسكرية على ما تبقى من مناطق سيطرة المعارصة في محافظة إدلب وجوارها، واستمرار الكارثة الإنسانية التي سبّبتها حرب النظام الأسدي الشاملة والمستمرة على الثورة السورية، منذ انطلاقتها في منتصف مارس/ آذار 2011، واستقدم النظام، خلالها، مليشيات النظام الإيراني الطائفية، المتعدّدة القوميات، للدفاع عنه، ثم جاء تدخل النظام الروسي المباشر إلى جانبه، ليحدث تحولاً كبيراً في ميزان القوى، وكي يعلن اكتمال الصراع في سورية وعليها، بوصفه صراع نفوذ إقليمي ودولي، حيث باتت خمس دول تخوض في القضية السورية: روسيا وإيران وإسرائيل والولايات المتحدة الأميركية وتركيا.
وكان مبعوث الأمم المتحدة إلى سورية، غير بيدرسون، قد بدأ مهمته في السابع من يناير/ كانون الثاني 2019، بعد استقالة المبعوث السابق، ستيفان دي ميستورا، وفشله في مهمته، وهو الذي أمضى أكثر من أربع سنوات، من دون أن يحرز أي تقدم باتجاه الحل السياسي. ونشر بيدرسون رسالة على "تويتر"، أكد فيها عزمه على القيام "بمساع حميدة من أجل تحقيق الحل السلمي وتطبيق قرارمجلس الأمن 2254"، وأنه سوف يعمل "من أجل" خدمة الشعب السوري وتطلعاته من أجل السلام". وكان متوقعاً أن مهمة بيدرسون ستصطدم بالعراقيل التي سيضعها النظام الأسدي وحلفاؤه في موسكو وطهران، وبما يقتضي منه الصمت على ألاعيب نظام الأسد وجرائمه، ومسايرة التدخل المليشياوي للنظام الإيراني، وغض الطرف عما يقوم به نظام بوتين من تدخل عسكري مباشر إلى جانب نظام الأسد. ولذلك كانت مقدمات فشل مهمة 
المبعوث الأممي تبدو جلية في الأفق، خصوصا بعد قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في أواخر 2018، سحب قوات بلاده من سورية، وهو الذي عبّر عن رغبته في الانسحاب من الملف السوري برمته.
وبعد مخاض طويل، دام حوالي عشرين شهراً، وشهد مماحكات وتجاذبات، وخلافات على أسماء قائمة المجتمع المدني، وعقد قمم ثلاثية وثنائية بين رعاة محور أستانة، ولدت اللجنة الدستورية نتيجة توافقات دولية وإقليمية على تسمية أعضائها، مع أنها كانت أحد أهم مخرجات "مؤتمر سوتشي للحوار السوري"، الذي عقد في 30 يناير/ كانون الثاني 2018 في منتجع سوتشي الروسي، ودعا إليه ورعاه ساسة الكرملين.
وفي أول اجتماع عقدته اللجنة الدستورية في جنيف في 30 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وصف بيدرسون مجرد انعقادها باللحظة التاريخية، واعتبرها "أهم قضايا المجتمع السوري، بشكل فعلي"، على الرغم من أن الأمر لم يكن يتعدّى سوى اجتماع بروتوكولي، حضره مع أعضاء اللجنة المائة وخمسين في قاعة واحدة.
ولم يحقق بيدرسون أي اختراق مع انعقاد اللجنة، حيث استمرت هجمات قوات النظام والروس على مناطق المعارضة في إدلب، كما لم يتمكّن من إطلاق سراح أي معتقل من سجون نظام الأسد، بوصفها خطوة تدخل ضمن "إجراءات بناء الثقة" التي طالب بها بيدرسون نفسه قبيل انعقاد اللجنة، ولم يتحقّق أي منها.
والمفارق أن اللجنة الدستورية التي حظيت بموافقة المجتمع الدولي، وكانت بمثابة تغطية لعجزه حيال القضية السورية، لم تستطع إكمال الجولة الثانية من اجتماعاتها، بسبب محاولة النظام حرفها عن مهمتها، وبالتالي، لم يجد بيدرسون أمام مجلس الأمن سوى الإعلان عن خيبة أمله من تعثّر عمل اللجنة، لكنه لم يُحمّل النظام مسؤولية إفشال أعمالها، وترك الباب مفتوحاً من 
دون أي مقترح لتفعيل عملها، مع أن الأمم المتحدة، ومعها هيئة الرياض 2 التفاوضية، كانتا تأملان في أن تفتح تلك اللجنة العتيدة المجال أمام حلّ سياسي في سورية.
وفي المسار الذي اجترحه ساسة النظام الروسي، مسار أستانة، انتهت الجولة الرابعة عشرة من اجتماعاته في 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري في العاصمة الكازاخية نور سلطان، من دون أي نتائج، وفي ظل لامبالاة دولية. وغابت أدارج الرياح المطالب بوقف إطلاق النار وإطلاق سراح المعتقلين، بل وأوقف الفيتو الروسي الصيني المزدوج في مجلس الأمن، في 20 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، مشروع قرار لتمديد عمليات إيصال المساعدات الإنسانية إلى المنكوبين السوريين في الشمال السوري.
وفيما تستمر هيئة الرياض 2 التفاوضية التي تمثل المعارضة السورية المعترف بها دولياً، في تلبية ما تمليه أجهزة الدول الخائضة في الدم السوري، يحاول أعضاؤها تسويق ذلك في عدم توفر بديل آخر للحل السياسي في سورية، من دون أن يدركوا أن كل ما قاموا به لم يوفر لهم أي بديل فعلي، وكانوا يساقون إليه من دون يحققوا شيئاً. وعلى الرغم من فقدان تشكيلات المعارضة دورها المؤثر في الأحداث، وارتهانها للقوى الإقليمية والدولية، من المستغرب أن تلك القوى لا تعمل إلا على تغيير هيكليات تشكيلات المعارضة السياسية وتركيباتها، من دون العمل على تقويتها وتفعيل أدوارها الغائبة عما يعتري القضية السورية، فضلاً عن التمزّق الذي يعتري تلك التشكيلات، بسبب الانقسامات الأيديولوجية والجهوية وسواها.
العملية العسكرية التركية
وفي التاسع من أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، شنّت قوات تركية، ووحدات من الفصائل 
السورية المدعومة تركياً، عملية "نبع السلام" العسكرية في شرقي الفرات، وتمكّنت من السيطرة على المنطقة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين، بطول 109 كيلومترات وبعمق يتراوح بين 30 و35 كيلومتراً. وانطلقت العملية بضوء أخضر أميركي، وتفهّم روسي، بناء على تفاهم بين الرئيس التركي أردوغان ونظيريه، الأميركي ترامب، والروسي بوتين، بشأن مدى العملية وحدودها وتفاصيلها. وجرى الإعلان عن أهدافها المتمثلة بإقامة منطقة أمنة لإعادة لاجئين سوريين إليها، لكن الهدف المضمر هو منع أي إمكانية لقيام كيان كردي في المنطقة.
وتزامنت العملية مع إعلان الرئيس الأميركي دونالد ترامب سحب ما تبقى من قوات بلاده الموجودة في سورية، إلى جانب تفهّم ساسة الكرملين الدواعي الأمنية التركية. وأحدث القرار الأميركي صدمة لدى قادة مليشيات الوحدات الكردية ومناصريها، وراحوا يتحدّثون عن طعنة أميركية في ظهرهم، مع أن ترامب سبق أن أعلن سحب القوات الأميركية في سورية، ولكنه تراجع عن قراره في أكثر من مناسبة، تحت ضغط بعض أركان الإدارة الأميركية ومؤسساتها. وقد تعالت الأصوات المنددة بقراره سحب الجنود الأميركيين من منطقة العملية العسكرية التركية، بوصفه الضوء الأخضر الأميركي لها، الأمر الذي جعله يتراجع عن قرار الانسحاب
الكامل، والإبقاء على أكثر من مائتي عسكري قرب حقول النفط في مناطق دير الزور ورميلان والشدادي وسواها، لحمايتها وتحويل عائداتها لصالح الوحدات الكردية الحليفة.
وسارع الرئيسان، بوتين وأردوغان، إلى عقد لقاء، في 22 أكتوبر/ تشرين الثاني الماضي، انتهى إلى حصول الرئيس التركي على ضمانة من نظيره الروسي، تقضي بانسحاب مليشيات "قوات سوريا الديمقراطية" من الشريط الحدودي، الممتد من الضفة الشرقية لنهر الفرات وصولاً إلى الحدود العراقية، وبعمق 30 كيلومتراً، مقابل تعزيز النظام الروسي وجوده العسكري في هذه المنطقة، مع تضمين الاتفاق بنداً، يقضي بنشر دوريات مشتركة روسية تركية، وإشراك قوات من النظام الأسدي، فضلاً عن نشر قوات أخرى للروس والنظام في كل من منبج وعين العرب والطبقة والرّقة وسواها، الأمر الذي عنى أن الوجود العسكري الروسي أصبح هو الأهم والأقوى والأوسع انتشارا على كامل الأرض السورية.
هزيمة داعش ومقتل البغدادي
وتعرض تنظيم الدولة الأسلامية (داعش)، خلال العام 2019، إلى ضرباتٍ عسكريةٍ مؤثرة، حيث خسر في معركة الباغوز، في مارس/ آذار، ما تبقى من دولته، مع مقتل عدد من قياداته، واستسلام عدد كبير من مقاتليه الأجانب في صفقة مع مليشيات وحدات حماية الشعب 
(الكردية) التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) في سورية. أما الضربة الأقوى، فجاءت مع مقتل زعيمه، أبي بكر البغدادي، ومعه آخرون من قادة التنظيم، في ليلة 27 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي في إحدى قرى إدلب، غير أن الضربات المتعدّدة التي تلقاها "داعش"، خلال العام 2019، لا تشي بأنها وضعت نهاية للتنظيم وعناصره، إذ إن مثل هذه التنظيمات المتشدّدة لا يُقضى عليها عسكرياً فقط، بل يجب القضاء على مسبّباتها كاملة، وإن انتهت كمشروع دولة، فإنها لم تنته كأيديولوجيا وأفكار، وهذا ما يفسر استمرار وجود خلايا نائمة للتنظيم في مناطق من البادية وسواها، وفي العراق كذلك، إضافة إلى أن مثل هذه التنظيمات يمكنه تغيير خططه واستراتيجياته بسهولة، وحسب المعطيات على الأرض.
حرب الإبادة الروسية
ويكشف التصعيد العسكري ضد مناطق عديدة في محافظة إدلب أن النظام الروسي يريد السيطرة على ما تبقى من مناطق المعارضة السورية والتنظيمات المتشدّدة في شمالي سورية، واستكمال عودة سيطرة نظام الأسد على جميع الأراضي السورية، من خلال حرب الإبادة التي يقوم فيها. ولكن ذلك يواجه معيقاتٍ عديدة، فليست معركة السيطرة على إدلب سهلة، ولا تريد تركيا أن تتحمّل موجات أخرى من تهجير السوريين ولجوئهم إليها، فضلاً عن أن سيطرة القوات الأميركية على حقول النفط في الجزيرة السورية يُفشل خطط ساسة الكرملين في الاستحواذ على النفط السوري، ولذلك يعمل الروس على إبرام صفقة مصالحة بين نظام الأسد وحزب الاتحاد الديمقراطي (الكردي) والمليشيات التابعه له، ويحاولون عقد تفاهمات ولقاءات ما بين الساسة الأتراك ونظام الأسد.
ولعل ازدياد الضغط الدولي على ساسة الكرملين، من أجل حمْلهم على وقف تصعيدهم العسكري على معرّة النعمان وسراقب وأريحا وسواها، يشكل عامل إعاقة قويا في وجه ما 
يطمحون إليه، ولذلك فإن استعجال ساسة الكرملين في استثمار ما حقّقوه عسكرياً على الصعيد السياسي يواجه الفشل، حيث لم يتمكّنوا من تسويق ملف إعادة الإعمار وإعادة اللاجئين، إلى جانب فشلهم في التوصل إلى تسوية سياسية، تمكنها المحافظة على مصالحهم.
في المقابل، تواجه قيادات الفصائل الإسلامية المتشدّدة، وخصوصا هيئة تحرير الشام، مشكلاتٍ تتصل بتوحيد الفصائل التي تدور في فلكها، للتصدّي لهجمات النظامين، الروسي والأسدي، في ظل الانقسام القائم بين غرف عمليات الفصائل في إدلب. ويبقى أن أهل إدلب ونازحيها ومهجّريها باتوا رهينة بين قبضة التظيمات المتشدّدة ونيران هجمات الروس والنظام الأسدي.
تآكل نظام الأسد
أما نظام الأسد فواجه في عام 2019 معضلات عديدة، حيث تشهد المناطق التي يسيطر عليها حالات تذمر كبيرة، نظراً للتردي الاقتصادي والأمني المستمر، والذي أدّى إلى ضائقة معيشية خانقة، تظهر في الطوابير الطويلة على المواد الأساسية والغاز والمازوت، إلى جانب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، وتدهور سعر صرف الليرة، وتفشّي البطالة، وانتشارالجريمة، فضلاً عن انعدام الأمن والاحتكار والمحسوبية، وسطوة مليشيات حزب الله ومليشيات إيرانية، وما تسمى القوات الرديفة الخارجة عن سيطرة النظام. وأفضى ذلك إلى ارتفاع أصوات تطالب بإنقاذ الأوضاع ووقف الانهيار، إلى جانب تجرؤ أصوات موالية على انتقاد بشار الأسد، واتهامه بالوقوف وراء شبكات الفساد والنهب، وأدّى ذلك إلى نشوء حملات ضد رأس النظام والحاشية المقرّبة منه، خصوصا في مدن ومناطق اللاذقية وجبلة وسواهما.
ويبدو أن نظام الأسد وصل إلى حافّة الإفلاس، وهذا ما تؤكده عمليات الحجز على أموال أشخاص من الدائرة الضيفة والمرتبطة ببشار الأسد مالياً وعائلياً، حيث طاولت، أخيرا، رامي مخلوف، جابي أموال عائلة الأسد، وشمل الحجز أموال زوجة مخلوف، وبعض الشركاء الفرعيين له، بعد حجز مشابه، طاول طريف الأخرس، عم أسماء، زوجة بشار. وسبق أن قام نظام الأسد بعمليات تدقيقٍ في حسابات شركة "سيريتل" للاتصالات، والتي يملكها مخلوف، 
وتمّ وضع اليد على إدارتها، وحلّ إدارة "جمعية البستان"، وحلّ مليشياتها المسلحة كذلك، وأغلق فرع الحزب القومي السوري التابع لمخلوف. كما طاول الحجز أيضاً أموال صهر العائلة الحاكمة، أيمن جابر، صاحب معمل البراميل المتفجرّة، والمقرّب من ساسة الكرملين، ومؤسس مليشيات "مغاوير البحر" و"صقور الصحراء" التي حُلّت أيضاً. وتشير هذه الأجراءات المتخذة بحق هؤلاء، وهم يمثلون كبار تجار الحرب في سورية، إلى إفلاس النظام.
من جهة أخرى، تشهد مناطق وبلدات درعا وحمص والرستن والغوطة الشرقية، منذ مدة، نشوء حركة احتجاج، وردود فعل شعبية، على ممارسات النظام وشبّيحته وأجهزته، حيث شهدت مدينة درعا وبعض البلدات التابعة لها خروج أعداد كبيرة من أهلها في مظاهرات مندّدة بالنظام، وطالبت بإسقاطه، أهمها مظاهرة خرجت في 12 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي. كما نفذت مجموعاتٌ مسلحةٌ عملياتٍ ضد قادةٍ في أجهزة الأمن وجيش النظام في أكثر من منطقة، وكذلك نفّذت مجموعة تدعى "سرايا المقاومة في حمص" هجوما على كل من مبنى الشرطة العسكرية وفرع أمن الدولة في مدينة الرستن، وتكرّر الأمر نفسه في الغوطة الشرقية، حيث هاجمت مجموعة حواجز للنظام، وفجّرت فيها عبوات ناسفة.
والحاصل أن عام 2019 شهد أحداثاً مأساوية عدة في سورية ضد غالبية السوريين، وليس هناك ما يشير إلى أن يكون العام المقبل 2020 أفضل، بل ستستمر معاناة السوريين في الداخل وفي بلاد المهجر، في ظل عدم اكثرات المجتمع الدولي ولامبالاته بدماء السوريين، وغياب أي أفق للحل السياسي، وإصرار النظام وحلفائه في النظامين، الروسي والإيراني، على المضي في الخيار العسكري، ولكن ما يطمح إليه النظام الروسي في إعادة سيطرة النظام على كل الأراضي السورية لن يتحقق، كما لن يستطيع ساسة الكرملين استثمار ما حققوه عسكرياً على المستوى السياسي، وليس أمامهم سوى البحث عن طريقٍ للخلاص من نظام الأسد.
5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".