لبنان.. مأزق السلطة ومأزق الانتفاضة

لبنان.. مأزق السلطة ومأزق الانتفاضة

29 ديسمبر 2019
+ الخط -
الانتفاضة اللبنانية في مواجهة الأسئلة الصعبة. هل تترك لأركان السلطة تشكيل حكومة "الالتفاف على الثورة ومطالبها"؟ وهل ستستمر في معركة إسقاط رئيسي الجمهورية ومجلس النواب، التزاما بالشعار الذي رفعته منذ اليوم الأول للحراك "كلّن يعني كلّن"، أم أنها ستكتفي بإسقاط سعد الحريري من رئاسة الحكومة، مع خطر انزلاق الانتفاضة إلى المستنقعات المذهبية؟ هذه الأسئلة وغيرها على الشارع اللبناني المنتفض أن يواجهها، ويواجه محاولات اختراقه وتطويقه وإجهاض ثورته. نجحت الانتفاضة الشعبية في العراق في دفع رئيس الحكومة، عادل عبد المهدي، إلى الاستقالة وأفشلت محاولات فرض رئيس حكومةٍ يدين بالولاء لملالي إيران، ما أثار تعاطف رئيس الجمهورية، برهم صالح، الذي وضع استقالته في تصرّف البرلمان، ليقطع الطريق على أي محاولةٍ لفرض رئيس للحكومة لا يلبي تطلعات المنتفضين، فهل تضغط الساحات المنتفضة في لبنان منذ شهرين ونصف لإجبار عون على الاستقالة؟ 
كان أول مطلب ملح للانتفاضة استقالة الحكومة، وتشكيل حكومة انتقالية مؤلفة من وزراء تكنوقراط ومستقلين لا علاقة لهم بأحزاب السلطة، تعكف فورا على وضع برنامج إنقاذي للأزمة الاقتصادية والمالية الحادّة، ووضع قانون لاستعادة الأموال المنهوبة، ثم صياغة قانون انتخابي جديد، والذهاب إلى انتخابات برلمانية مسبقة. زخم الشارع وضغط الساحات في كل لبنان، من شماله إلى جنوبه، أجبر سعد الحريري على الاستقالة في أقل من أسبوعين. فاجأت الاستقالة الشركاء، وبالأخص حزب الله الذي أصيب بإرباك شديد، وراح أمينه العام، حسن نصرالله، يبحث عن مخرجٍ يؤدي إلى إنقاذ تسويةٍ صانها برموش العينين، ومكّنته من الإمساك بمفاصل السلطة في نهاية عام 2016، عبر فرض ميشال عون رئيسا وإغراء الحريري المتعطش للعودة إلى رئاسة الحكومة. حاول عون ونصرالله إعادة لملمة وجمع شظايا المركب الذي ضمهما والحريري، غير أن الأخير لم يستجب لكل المحاولات، لا بل سعى إلى ركوب موجة الشارع.
حاول الثنائي (نصرالله - عون) الالتفاف على الانتفاضة ترغيبا وترهيبا، من دون أن يفلح،
 فيما الشارع يضغط ويصرّ على حكومة تكنوقراط مستقلين. عندها تفتقت عبقرية أحدهم بسحب ورقة الأكاديمي، حسّان دياب، الذي كان وزيرا عام 2011 في حكومة نجيب ميقاتي الثانية، وكانت حكومةً من فريق واحد، يسيطر على قرارها "الممانعون"، وتقديمه رجلا محايدا وتكنوقراطيا يمكن أن يقبل به المنتفضون بعد مرور خمسين يوما على استقالة الحريري. ولكن دياب هذا يبدو شخصيةً قاتمةً ومربكة، يحاول الإيحاء بنوع من الثقة بالنفس، عبر إطلاق مواقف جازمة وقاطعة، تحتاج إلى حضور قوي وثقل سياسي، علما أنه لا يتمتع بأي حيثية، لا سياسية ولا شعبية، وإنما مجرد أداة في أيدي الثنائي الذي اختاره. ودياب هذا ما انفكّ يؤكّد، منذ تكليفه، أنه يتبنّى مطالب الانتفاضة، وأنه سيشكل حكومة من اختصاصيين مستقلين، ويصرّ على القول إنه سيد قراره! كما حاول أن يخترق الانتفاضة، عبر استمالة بعض المجموعات، ودعوتها إلى الحوار فلم يوفق. وهو يشيع بالتالي أنه بات على قاب قوسين من ذلك، لأن معظم التشكيلة على ما يبدو قد تم تجهيزها مسبقا، لأن ثنائي السلطة لن يقبل بالخروج من الحكومة، ولا حتى أن يختار دياب وزراءه في الحكومة. في المقابل، يواجه الأخير مشكلة تعذّر إيجاد شخصيات سنية مستعدة للمشاركة في الحكومة، نتيجة معارضة الحريري وضغط الشارع السني. فماذا سيفعل مسؤولو الحراك؟ هل يعطونه الفرصة ليكشف 
أوراقه كما يطرح بعضهم، أم يقطعون الطريق عليه، لأنه مجرد حصان طروادة، يريد عبره الثنائي، وخصوصا حزب الله، إجهاض الانتفاضة؟ فإذا سعى الشارع إلى إفشال مهمة دياب سيقع في شبهة التعاطف مع الحريري والمزاج السني، إلا أن إجبار دياب على الاعتذار يبدو الممر الضروري الذي يمكن الشارع من التصويب نحو إخراج عون من القصر الرئاسي، ما من شأنه أن يبعد الانتفاضة عن الانزلاق في المستنقعات المذهبية، ويحافظ على لحمة الشارع ووحدته وتماسكه، وكذلك قدرته على حشر أطراف السلطة أكثر فأكثر في الزاوية!
أهم ما حققته الانتفاضة اللبنانية أنها خلخلت تركيبة السلطة، وشلّت معظم أحزابها التي تبدو تراوح مكانها، منكفئةً عاجزة عن الفعل والتأثير، لا في مواقع القرار وغرف السلطة، حيث تمكث منذ سنوات، ولا في تقبل الشارع لها. أكبر متضرّر هو التيار العوني الذي يقوده صهر رئيس الجمهورية، جبران باسيل، الذي كان الأقوى في الشارع المسيحي، والذي يبدو اليوم مشلولا ومعزولا. وحده حزب الله الوحيد الذي حافظ على قدرته على الحركة والفعل، ما مكّنه من استيعاب عاصفة الانتفاضة التي وضعته، في الأسابيع الأولى، في موقف صعب، وأحدثت له إحراجا كبيرا، نظرا للكوة التي فتحتها في الجدار الشيعي المحكم البنيان، فانتفضت مدن جنوبية شيعية بامتياز، مثل صور والنبطية وكفررمان، وحتى بنت جبيل، وبقاعية مثل بعلبك التي يعتبرها حزب الله نفسه خزان المقاومة. اليوم نصرالله هو الطرف شبه الوحيد الذي يحرّك خيوط لعبة السلطة، فيما باسيل مضطر للابتعاد عن الواجهة، بعد أن خاض معركته الشخصية السلطوية الضيقة مع الحريري، فيما حزب الله يتطلع الى كيفية مد الخيوط نحو الإدارة الأميركية والدول الأوروبية المانحة، أملا بتخفيف الضغط والحصول على دعمها حكومة دياب إذا أمكن، وخصوصا منعا للانهيار الاقتصادي والمالي الذي سيطاول جمهوره إذا حصل قبل غيره. لكل هذه الأسباب، كان مصرا على بقاء الحريري على رأس الحكومة، كما توأمه رئيس حركة أمل نبيه بري، ولكن عون، حليفه الاستراتيجي، أصر على الانتقام من الحريري الذي 
أصرّ على إبعاد باسيل عن الحكومة، ما اضطر نصرالله إلى التضامن معه. وهذا ما سيؤدّي، على الأرجح، إلى إفشال مهمة دياب.
هل يراهن حزب الله على العودة إلى الحريري؟ لا تبدو صورة نصرالله بهذه القوة، بنظر بعض الناشطين والفاعلين في تحريك الشارع الذين يرون أنه لم يعد ذلك الذي يتمتع بالمقدرة على اجتراح المعجزات، فهو عارض استقالة الحكومة، ولكن الحريري استقال، وأراد أن يحافظ على موقع باسيل، ولكن هذا اضطر إلى الابتعاد. كما أراد نصرالله عودة الحريري بشروطه، ولكنه فشل، لأن الحريري أصر على شروطه ورفض العودة. وهو الآن بعد تكليف دياب يتراجع عن شرط حكومة "تكنو - سياسية"، ويقبل بحكومة تكنوقراط مستقلين، أقله كما يعلن. ويلاحظ هؤلاء أن حزب الله تراجع خطوتين إلى الوراء بلجم غزوات "قمصانه السود" عن ساحات الاعتصام، بعدما تلقى تحذيرا أوروبيا من دولة يحرص على الحفاظ على علاقته معها، والتزم بعدم اللجوء إلى العنف. كما أن ماكينته الدعائية تلقت ضربة قاسية، بعدما ثبت أن من بادر إلى طرح ملف النفط والغاز خلال زيارة مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى، ديفيد هيل، بيروت، كان رئيس الجمهورية وليس هيل، وبالتالي سقطت أطروحة نصرالله التي سوّقها أشهرا أن واشنطن هي من يحرّك المنتفضين في الشارع، وتستعملهم لممارسة الضغوط على السلطة في لبنان من أجل إجبارها على القبول بالشروط الإسرائيلية حول الترسيم والتنقيب. ويلفت هؤلاء الذين رفضوا تلبية دعوة رئيس الحكومة المكلف للاجتماع به، إلا أن نصرالله كف منذ مدة عن شتم دول الخليج والتحريض عليها، ولم يعد يفاخر ببطولات حزبه في سورية واليمن والعراق، ولا يأتي حتى على ذكرها في خطاباته، لافتين إلى أمر مستجد في منتهى الأهمية، وهو صدور "قانون قيصر" الأميركي الذي يفرض عقوبات شاملة وقاسية على النظام السوري، وكل من يتعامل معه، قاطعا بذلك الطريق على أي دور لحزب الله هناك، وعلى كل حلفاء الأسد من الممانعين، وخصوصا باسيل الذي كان يحضر لتعبيد الطريق أمام رجال أعمال لبنانيين وشركات أجنبية للمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار في سورية. لكل هذه الاعتبارات، فإن حسابات حزب الله تختلف، لا بل تتناقض، مع حسابات التيار العوني التي هي مجرّد حسابات سلطة ونفوذ محلي. وهذا ما يعتبره محرّكو الانتفاضة فرصة مؤاتية لتشديد الضغط على السلطة، فهل يكون بالتركيز على موقع الرئاسة لفرض استقالة عون؟
5231ACF6-F862-4372-9158-B1655EE52A60
سعد كيوان

صحافي وكاتب لبناني، عمل في عدة صحف لبنانية وعربية وأجنبية.