2020 قبل الميلاد

2020 قبل الميلاد

29 ديسمبر 2019
+ الخط -
كلّما حلّ عام جديد، وشاهدت كرنفالات الاحتفاء العربية به، تداعى إلى البال مشهد ذلك الكائن الذي لا يستيقظ من النوم إلا ليسأل كم الساعة، ثم يعاود "الغرق". ربّما كنت قاسيًا في الوصف بعض الشيء، ولربما اتُّهمت بالتشاؤم، غير أن من يتمعّن في المشهد السابق يدرك أنني أتوفّر على تفاؤلٍ كثيرٍ غير مبرّر؛ لأن الواقع يقول إن "النائم العربيّ" لا يستيقظ ليسأل عن الساعة، بل عن السنة.
في أي عام نحن؟ ماذا لو كانت الإجابة: في العام 2020 قبل الميلاد؟ هل تستوقف النائم العربي كلمة "قبل" أو "بعد"؟.. هل يفرك عينيه، ويصيح: "اللعنة.. لقد تأخرت كثيرًا"، ثم ينهض من فوره ليلحق قطار العالم الذي فاته منذ أمد بعيد؟ لست في وارد قطع الطريق على أي احتفال مزمع، غير أن مسوّغات التمثيل للمشهد المذكور عارمة يعرفها المحتفلون قبلي، لكنّهم يُؤثرون المحاكاة والصدى على صوت الحقيقة. أما الحقيقة فتقول إنه كان حريًّا بالمحتفلين العرب أن يطرحوا على أنفسهم سؤالًا بسيطًا من قبيل: من سيرافقنا إلى العام الجديد؟
لا أعتبر العام المقبل جديدًا، إذا كان المرافقون هم عبدالفتاح السيسي، ومحمد بن زايد، ومحمد بن سلمان، وبشار الأسد، إلى آخر قائمة الرهط الذين جعلوا عامنا المنصرم كالحًا وبائسًا ومتخمًا بالخيبات. أدري أن ثمّة من سيتذرّع بانعدام الحيلة حيال هؤلاء المرافقين غير المرحّب بهم في العام العربي الجديد، غير أنني بتّ على قناعةٍ بأن المستنقع الشعبيّ العربيّ ذاته يتحمّل وزر إنتاج هؤلاء الطغاة وإنباتهم.. فنحن ما زلنا نبحث عن "المنقذ"، و"البطل"، و"المحرّر"، وما زلنا ندبّج المراثي بطغاة آخرين، عوّلنا عليهم، وعلّقنا في أعناقهم عقد أحلامنا. ما زلنا متشبّثين بـ"وحدة الرأي"، ووحدة الفكر والمذهب، ولا ننظر إلى الآخرين إلا بوصفهم حطبًا لجهنم، ولا نحترم الاختلاف ونستخفّ بكل من يحمل بذرة حوار أو فسيلة ديمقراطية. ما زلنا نقدّس الزعيم، ولا نجلّه إلا بالنياشين والبسطار والعصا، مهما اتخذ من قراراتٍ تهلك الأمة، وتعيدها قرونًا إلى الوراء، فالمهم أن يكون "مستبدًّا عادلًا"، ينادي بشعارات الوحدة والتحرير، مغفلين أن على من يقبل بالمستبدّ العادل أن يقبل بالمستبدّ الظالم، أيضًا؛ لأن الأول لا يُسأل إن جعل الثاني خليفته، كما حدث مع أنور السادات حين خلف جمال عبد الناصر، أو مع أبو مازن حين خلف أبو عمار. والأهم أن القبول بفكرة الاستبداد ذاتها تورث المحكوم أخلاق القطيع، وإن لم يتنبّه إلى ذلك؛ فهي تعطّل الذهن وتسلّم القياد وتقتل المبادرة، ثمّ حين يستيقظ المحكوم العربي بعد ثلاثمئة عام ليسأل عن "الزمن"، يكتشف أن الزمن ما يزال زمن الطاغية نفسه، وأن أوراق العُملة لم تتغيّر، فصورته لم تزل "توشّحها"، وأن الكلاب التي كانت تطارده في الشوارع لم تزل الكلاب ذاتها.
عندها، ينبغي ألا يُعجب العربيّ إن رافقه إرث خيباته إلى العام الجديد الذي نسي رقمه؛ فهو من أسهم بهذه الخيبات، ولربّما تكشّف له أن المحتفل الحقيقي بالعام الجديد هم طُغاته وحدهم؛ لأنهم استطاعوا تغييب العقل العربي سنةً أخرى، وتمكّنوا من الطغيان عامًا آخر، وسيدخلون العام الجديد بكلّ يقظتهم الأمنية، وقبضتهم الفولاذية، وبشهية أزيد تفاقمًا على النهب والإفساد والقمع وإجهاض الأحلام.
وحدهم هؤلاء من يُجرون جردة حسابٍ الآن، ليعرفوا حدود الكتف الجديدة التي سيلتهمونها في العام الجديد، بعد أن أجهزوا على الثورات العربية الوليدة التي حاولت، ذات سنة، أن تنهض من نومها الطويل، فلم تجد إلا الهراوة بالمرصاد. وهم أصلًا لا يعترفون بأي عامٍ لا يبدأ بهم ولا ينتهي بهم، لأنهم أول الزمن العربي وآخره.. تلك قناعتهم، فهل يكون للنائم العربي قناعة بديلة؟
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.