العراق في آخر العام

العراق في آخر العام

25 ديسمبر 2019
+ الخط -
سألتُه عبر الهاتف: كيف ترى العراق في آخر العام، وأنت هناك؟ أجاب: يقف العراق، في آخر العام، على الحد بين الثورة على ما هو ماثل ستة عشر عاما عجافا واستمرار نظام المحاصصة الذي أفرزته تداعيات الاحتلال والهيمنة الأجنبية. ويقف العراقيون على أعتاب الرضا بقطعة صغيرة من الرغيف أو الإصرار على الحصول على الرغيف كاملا، وهم يدركون أن الاستقلال يؤخذ ولا يُعطى، والحرية لا تُكتسب بالشعارات فقط، إنما بالدماء أيضاً. لقد أعطى شباب "انتفاضة تشرين" أكثر من ستمئة شهيد وخمسة عشر ألف جريح ومعوق، ومثلهم وربما أكثر منهم بين معتقل أو مختطف أو مغيّب. واسترخصوا كل هذه التضحيات، كي يستعيدوا وطنهم وينالوا حقوقهم في الحياة والحرية والعمل، ولم يعد أمامهم من خيار سوى استمرار الانتفاضة/ الثورة كي يتحقّق الاستقلال الثاني بعد مئة عام على الأول، وكي تتحرّر البلاد من ربقة الاحتلال والهيمنة، وتستعيد كرامتها المسلوبة وثرواتها المنهوبة، ويتم التأسيس لنظامٍ جديد يضمن حقوق المواطنة المتساوية، ويضمن الحاجات الإنسانية الأساسية.
قلت: ولكن ما يرد من الأخبار يوحي أن ثمّة مخططا شرّيرا للقضاء على الانتفاضة بأي ثمن. أجاب: ما تقوله صحيح، فثمّة من يسعى إلى تفجير الانتفاضة من داخلها، وثمّة من يريد ركوب الموجة، ومن يخطّط لانتفاضة معاكسة. ولكن يبدو لي أن كل هذه المحاولات فشلت، أو هي في طريقها إلى الفشل. وأستطيع أن أقول إن الانتفاضة سوف تظل صامدة، بعدما تجذّرت في النفوس والقلوب، ولو غادر المنتفضون/ الثوار ساحات التحرير والوثبة والخلاني لسبب أو 
آخر، فسوف نجد الانتفاضة تتجدّد في الشوارع والأزقة، وفي البيوت أيضا. ومع انبثاق فجر كل يوم، تتفجر الانتفاضة من جديد بأشكال وصيغ وفعاليات تظهر إصرار الشباب على المضي بها إلى النهاية، فيما يراهن ساسة "المنطقة الخضراء" على الزمن، علّه يوهن عزائم الثوار، ويخفف من حماستهم للتغيير، ويعيدهم إلى بيوتهم وجامعاتهم من دون أن يلحقوا ضررا بالعملية السياسية التي اعتاش عليها هؤلاء الساسة أعواما طوالا. ولذلك تراهم يراوغون في الاستجابة لمطالب المتظاهرين، وحتى لنصائح "المرجعية" التي يزعمون التناغم معها. هذا ما ظهر في حكاية ترشيح رئيس وزراء جديد بعد استقالة عادل عبد المهدي، أو قل بعد أن أقاله الشعب، فقد ظلوا يقدّمون رِجلا ويؤخّرون أخرى، حتى رشحوا في النهاية واحدا من رجالهم، و"كأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا".
أما هؤلاء الشباب العشرينيون الذين ترى وجوهم على الشاشات، وتقرأ عنهم على مواقع التواصل، فقد تخطوا السائد، وركبوا المستحيل، إذ اجترحوا ثورةً تجاوزوا فيها آباءهم، وعجز عن استشرافها كتاب ومحللون، وشكّلت نمطا لا يمكن وضعه في خانة احتجاجات مطلبية لمدينة، أو تعبيرا عن الحاجة لخدماتٍ معينة، إنما مثّلت ضرورة حياة لصنع التغيير الشامل في بلدٍ جالت عليه سنابك خيل الزمن طويلا، ولسوف تحقق ما تريده في زمن قد يقصر وقد يطول.
سألته: وما الجديد في نهاية العام؟ أجاب: شرع رجال الطبقة السياسية الحاكمة في الحديث عن الانتفاضة وكأنها انتفاضتهم، وتراهم يخاطبون الشباب بلغةٍ مزدوجةٍ، فهم يظهرون دعمهم لمطالبهم، لكنهم يتجاهلون ما يجري على الأرض من تقتيل واختطاف واعتقال، من دون أن يرفّ لهم جفن، رجال المليشيات السوداء كذلك يزعمون حماية "المتظاهرين السلميين"، لكنهم يرسلون حملة الخناجر والقامات المسمومة لذبحهم، وحتى "مرجعية النجف" تنصح بالاستجابة لمطالب المتظاهرين ونبذ العنف، لكنها تساوي بين الجلاد والضحية.
هناك أيضا حالة تماهٍ مشبوه بين رجال الحكم والمليشيات، وبينهم وبين المرجعية، وبينهم وبين شيوخ عشائر، وبينهم وبين مافيات الجريمة المنظّمة، وقبل ذلك ثمّة توافق عفوي، وربما مقصود، بين الحاكم والمحتل، وبين الحاكم والمهيمن، وبين المحتل والمهيمن، وكأنهم كلهم توافقوا على فعل الشرور دون المآثر، وثمّة شرور على مدار الساعة.
قلت له: أين تضع نفسك اذن في هذا كله؟
صمت برهة، ثم قال: بصراحة إنني متشائل. ورحم الله الروائي الفلسطيني الراحل إميل حبيبي الذي له الفضل في نحت هذا الوصف الذي أدركنا عبر سطور روايته المعروفة عن سعيد أبي النحس... لم أشأ أن أعلق، فقد اكتشفت أنني، أنا الآخر، أوشك أن أصبح متشائلا مثله، لا أملك سوى التمنّي والدعاء.
583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"