قطار ثورة السودان ومحطة الثورة المضادّة

قطار ثورة السودان ومحطة الثورة المضادّة

24 ديسمبر 2019
+ الخط -
جاء مبهجا احتفاء السودانيين بثورتهم، بعد مرور عام على انطلاقها. شعور بالنصر لا يقتصر على السودانيين، يشاركهم الحالمون بالتغيير، سواء من أخفقت مسارات تحقيق أحلامهم أو تعثرت، يبقى الاستناد إلى الأمل ضروريا لاستكمال الطريق، والانتصار لقيم العدل والمساواة والحرية. استعادة الوطن، الشعارات العامة لانتفاضات العرب وثوراتهم التي تكتب شعوبها تاريخا جديدا للمنطقة، أقلقت المستبدّين، وما زالت تورّقهم، حتى المتحصّنون بالدبابات والقذائف والبراميل، ومن يشعلون الحروب الأهلية والنعرات الطائفية، ومن يعتاشون على الانقسام المجتمعي وزيف الوعي.
مثلت مظاهرات طلاب المدرسة الصناعية في عطبرة، يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول 2018، ضد ارتفاع الأسعار، وسوء الأحوال المعيشية، أبرز شرارات انطلاق الثورة. وكانت عطبرة، ومعظم مدن السودان، قبل سنوات، قد شهدت احتجاجات وانتفاضات متشابهة في منطلقاتها وشعاراتها، متنوعة مكانيا ومن حيث فئات المشاركين. كانت انتفاضة سبتمبر 2013 الأبرز، ثم تكرّرت محاولات الانتفاض، شملت إضرابات ومظاهرات وعرائض سياسية طوال عامي 2016 - 2018. تزامنت التحرّكات مع اشتداد الأزمة الاقتصادية، ارتفاع نسب التضخم إلى ما يزيد عن 68%، وارتفاع نسب البطالة وتفاقم الأزمة المالية، انخفاض قيمة الجنيه السوداني مقابل الدولار، وعدم قدرة الجهاز المصرفي على تلبية حاجة 
السوق، وفشل مراهنات النظام على نجاح "الحوار الوطني" في تهدئه حالة الغضب السياسي، أو تعافي الاقتصاد بعد رفع العقوبات الاقتصادية الأميركية عن السودان (أكتوبر/ تشرين الأول 2017)، وكذلك محدودية الدعم الخليجي لمواجهة الأزمة الاقتصادية، والتي تفاقمت مع خسارة عوائد البترول، واستمرار حروب النظام، وتضاعف الديون من 2012 إلى 2016. فاقم ذلك كله أزمة النظام، خلال العامين السابقين على الثورة (2016 - 2018). كثفت قوى المعارضة السودانية الحوار والتعاون فيما بينها، وأصبح الظرف الموضوعي المتمثل في أزمات المجتمع اقتصاديا واجتماعيا مؤهلا للانتفاضة، وكانت ظروف القوى السياسية ذاتيا مؤهلة للعب دور في مساندة الحراك وقيادته.
لم تولد ثورة ديسمبر في السودان من فراغ، فأزمات المجتمع تشابكت مع أزمة النظام داخليا وخارجيا، وأنضجت الظروف الذاتية والموضوعية عوامل انفجارها، لذا ليست ثورة السودان منقطعة الجذور ولا مفاجئة، ولا هي ترف.
تولد الثورات عموما من قلب المعاناة. لم تكن "عدوى كالمرض" كما يحلو للرئيس السوري (والطبيب)، بشار الأسد، أن يصف موجة الثورات الثانية، ليعطي الطب صبغة ديكتاتورية. (وللمصادفة لشي جيفارا مقال عن الطب الثوري). كما أنها ليست أحداثا أو تهديدا لأمن البلاد، كما يحلو للرئيس المصري، عبدالفتاح السيسي، أن يصفها في كل مناسبة، كما فعل أخيرا في 
مؤتمر شباب العالم، والذي تضمن جانب منه مناقشة أوضاع إقليمية، ركزت على خطورة ما يراها النظام في مصر أحداثا هدّامة تقسم الدول وتهدمها. وسبق أن أعلن الرئيس السوداني المخلوع، عمر البشير، التصور نفسه من القاهرة، قبل أن تزيحه "مظاهرات" وصفها بأنها زوبعة في فنجان خلفها جهات سالبة تستهدف السودان.
ما بين مشهد الاحتفاء بالثورات ومشهد تشويهها عالمان، متناقضان، تستطيع رؤيتهما بوضوح. شعوب تريد التحرّر والتغيير، وتتوق للعدل وتوفير سبل العيش الكريم، ونظمٌ تريد فرض مظلة الاستبداد، وتطبق سياسات مفقرة، وترى في أي فرصة انعتاق لشعوب أخري تهديدا لوجودها، فالثورات، من وجهة نظرهم، مرض يحتاج علاجا، أو مؤامرةً تستلزم التصدّي، لكنها في الحقيقة مقلقة لهم، لأنها تمثل نقيضا لهم.
يعيد السودان زمن الوصل، زمن الثورة، وزمن الشعوب. وفي احتفال السودانيين بثورتهم، انطلق قطار ثوار الخرطوم إلى عطبرة، حاملا رمزية التواصل أيضا. ليست عطبرة أول مدينةٍ شهدت مظاهراتٍ واسعةً خلال ثورة ديسمبر، ولكنها بجانب ذلك كانت قاطرتها تدعم اعتصامات الخرطوم وتظاهراتها. وهنا إذ يتواصل ثوار الخرطوم مع ثوار عطبرة، ويقرّرون إحياء ذكري الثورة هناك، فإنهم يعيدون تعيين المساحات بين المركز والأطراف عبر جغرافيا الثورة، يحافظون على تماسك مكوناتها، يعيدون تذكير قوى الثورة المضادة بأنهم قادرون على الحركة والحراك. وبمشهدهم البهي في الاستقبال والاحتفاء بالثورة، يقول أهل عطبرة إنهم حاضرون دوما في مشهد صناعة تاريخ السودان، بكل محطّاته النضالية.
قطارات عطبرة وكسلا التي تحمل الثوار إلى الميادين ظاهرة متفرّدة للسودانيين. آلاف الثوار ينتقلون إلى الميادين بشكل جماعي، أحد أبعاد المشهد الثقافي والاجتماعي الذي يستحق التأمل، كما النفس الطويل للثورة، وصمودها في مراحل تطوّرها. شملت مرحلتها الأولى تظاهرات 
غاضبة ترفع شعار إسقاط النظام، احتجاجا على نقص الخبز والوقود وسوء الأحوال المعيشية عموما. ثم تفرض، في مرحلتها الثانية، بالإضرابات والاعتصامات، إسقاط البشير. واستطاعت مرحلتها الثالثة، عبر الإضراب والعصيان المدني، الوصول إلى اتفاق المرحلة الانتقالية، بينما تمثل الفترة الانتقالية مرحلتها الرابعة، القوة والشجاعة والانتصارات. وفي المراحل الأربع، تستحق الاحتفاء. صحيحٌ أن المرحلة الانتقالية مليئة بالتحديات الاقتصادية وملفات السلام وضرورة إصلاح أوضاع المعيشة بشكل عاجل. وما زال ذلك خاضعا لتوازنات قوة بين قوى الثورة والثورة المضادة، عدا عن تحدياتٍ تتعلق بمحاسبة اللصوص وناهبي المال العام ومجرمي الحرب وقتلة المتظاهرين.
تحاول الثورة المضادّة في السودان، في ذكرى الثورة، تجميع صفوفها، وتضم طيفا واسعا، بمن فيهم بعض وجوه المرحلة الانتقالية، وتضم أيضا من تضرّروا من خلع البشير ورجاله، وقيادات حزبي المؤتمر الوطني والمؤتمر الشعبي، إلى جانب كتل وقوى إسلامية أخرى كالسلفيين، وأحزاب شاركتهم السلطة تحت مظلة إسلاميي السودان. وتمثل القوى الثلاث مرتكزا سياسيا للثورة المضادّة. وهناك مرتكز اقتصادي يتمثل في قوى استفادت من وجود البشير ونظامه في الحكم، ستعلن دعمها رجال البشير إذا ما استشعرت تضرّر مصالحها وضعف قوى الثورة وتفتتها. ولا يستثنى من قوى الثورة المضادة الذين كانوا منخرطين في تنظيماتٍ موازيةٍ أوجدها النظام السابق، والتنظيمات النقابية والنسوية، وكلاهما مليء بالعناصر الانتهازية. تحاول كتل الثورة المضادة إيجاد محطات تواصل فيما بينها، لتطلق قطارها، مستغلة الأزمة الاقتصادية، ومتهمة الثورة بأنها سبب سوء الأحوال المعيشية، وتستخدم شعارات دينية وطائفية للحشد، منها ما يتعلق بحكم الشريعة والدفاع عن الإسلام. كانت بروفة تظاهرة الزحف الأخضر تمثيلا لمحاولة الثورة المضادة في التعبير عن نفسها ميدانيا، واستغلال أزمات المعيشة وتحديات المرحلة الانتقالية لتجييش جمهورها ضد الثورة، بل الدعوة إلى ثورةٍ ضد الثورة. تحدّيات المرحلة الانتقالية الصعبة لا تنفي الحق في الاحتفاء والنشوة بالثورة، ولكن الانتصار لها يتطلب يقظة قواها.
D75BB17B-0520-4715-86EC-B6995DA95615
عصام شعبان

باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية بجامعة القاهرة، أحد مؤسسي الجمعية الوطنية للتغيير، عضو المجلس الأعلى للثقافة لدورتين متتالتين، عضو شعبة العلوم الاجتماعية. أحد كتاب الرأى في صحيفة وموقع "العربي الجديد".يقول: "نفعل كما يفعل السجناء، نربي الأمل".