إلى "الصديق بيارو"

إلى "الصديق بيارو"

24 ديسمبر 2019

(بهرام حاجو)

+ الخط -
منذ بدء الثورة في لبنان، وأنا أفكّر في الكتابة إليك. كنتُ أكتفي بوضع تعليقاتٍ على صفحتي في "فيسبوك"، للتفريج عن صدمتي المتعاظمة بك، إذ كيفما كنت أيمّم بحثا عن المستجدّات، كنت أجدُك في الشاشة الصغيرة، تقول وتكرّر ما لم يعد سماعُه يُغتفر أو يُطاق.
لن يشفع لك أننا كنّا، ذات يوم، من أعزّ الأصدقاء، حين انتميْنا جميعنا إلى زمرتنا التي من مراهقين، إبّان اشتعال الحرب الأهليّة في لبنان، ثم من طلاب جامعيين، قبل أن يفرّقنا السفرُ إلى بلدان الله الواسعة، وأنتَ وأنا وصديقة ثالثة إلى باريس. لن يشفع لك أننا أحببناك وضممْناك إلى زمرتنا التي نشأت في قريتنا البعيدة، حيث وُجدتَ أنتَ أيضا، لكونها مسقط رأس والدتك، على الرغم من نأيك في القناعات والانتماء. أحببنا فيك رعونتَك، وحميْنا طيشَك، وضحكنا من حماستك لإقناعنا بالدخول إلى حزبك الكتائبي، حيث كان والدُك المرحوم مسؤولا، وحيث كنت ترى رفاقك "ثوريين" يسعون إلى "التغيير من الداخل".
كنتَ لصيقًا بنا، محبَّبا إلينا بنظّارتيك السميكتين، وسرعة بديهتك، ونداء أمّك ماري لك، "بيارو"، وهي ترطن الفرنسيّة بلكنتها اللبنانية، وطريقة هرولتك الطريفة على طرقات بشرّي الصاعدة الهابطة. وكنّا نرى إلى "سذاجتك" السياسية والثقافية آنذاك، وانتمائك إلى طبقةٍ أعلى منّا، برأفة، فلا نحاسبك ولا نرفضك ولا نجافيك ولا نحكم عليك. حتى أن عددًا منّا (إيلي وزخيا وجورج وتوفيق وأنطوان) تبنّوك وَغسلوك وعجنوك حتى خرجتَ إلينا "ماركسيا لينينيا" ناصعًا.
ثم جاء وقتُ الذهاب إلى الجامعة، فانتسبنا جميعا إلى كلّياتٍ مختلفة، وكنّا ثلاثةً ذهبنا إلى كلية الفنون لدراسة المسرح. أذكر أنك أنتَ من أقنعتني بالانتساب إليها، ودفعتَ حتى عنّي رسمَ التسجيل. ثم اتّسعت دائرةُ الصداقات، واشتدّت الحربُ علينا، وحصل ما حصل، إلى أن تخرّجنا، فبقي من بقي وسافر معظمُنا، وكنّا مرّةً أخرى ثلاثة، وجهتُنا باريس.
منذ ذلك الحين، وأنتَ "تتحوّل" تحت ناظريّ إلى ذلك الرجل الذي أصبحتَ اليوم عليه، وقد بات أَذَاكَ الذي لم يعرف يومًا الحياءَ أو التردّدَ أو سقفًا أخلاقيًا، يزداد حدّةً وأذيةً وتعنّتًا. كنتَ تزاحم على الواجهة والمنصب، وتقف عائقًا حتى في وجه لُقمة العيش، ولا تتوانى عن الطعن في الظهر. مَن عرفوكَ عن قُربٍ يعلمون هذا كلّه، وكذلك أصدقاؤك الذين ابتعدتَ عنهم وابتعدوا عنك، لأن مصلحتك كانت تقضي بانضمامك إلى دائرة من يُفيدون وينفعون، وتتنسّم في مرافقتهم سُلَّمًا يوصلك إلى المستقبل الذي تريد، وكان هذا مبرَّرا ومفهوما، لأنك كنت، على الرغم من اجتهادك ومثابرتك، ضامر الإبداع قليلَه. ولقد وصلتَ إلى حيث أردتَ. وهنيئًا لك وصولُك الذي لا تُحسَد عليه.
ونحن، إذ نعاود اللقاءَ اليوم بك، بعد أن تناسيناكَ ونسيناكَ، فلأنك تُقحم نفسَك في حياتنا، مواطنين هذي المرّة، وقد قسا عودُك واشتدّ ساعدُك وتعلّمتَ البطشَ. أنتَ، يا "بيارو"، بتَّ خطيرًا بالفعل، وقد أُعطيتَ نُفوذًا، وتحوّلتَ سيفًا يُعلي ويُنزل ويُفتي ويُخوِّن ويُحاكِم ويُشرعِن. والحقيقة أني أعترف لكَ أنك، بعد حرب سورية واندلاع ثورة لبنان، صرتَ تخوِّفُ فعلا، فمن سواك يمكنه أن يبرّئ قاتلا وسفّاحا كيماويا وملقي براميل على شعبه، فلا يبرّر له أفعالَه فحسب، بل يسعى إلى إقناعنا بأنّه حامي الحمى ورأس حربة الممانعة ومقاومة إسرائيل والغرب؟ وأنت تخوِّف أكثر، وقد اكتشفنا أنك تمتلكُ جيشًا مصغّراً تحرّكه كيفما شئتَ، مدعّمًا قولَك بالفعل، فتُنزله الشارعَ كي يمنع ويرهّب ويحاصر من سوّلت له نفسُه التغريدَ خارج سربك، فيرفع عصيّا ويُحرق خيما ويهتف مُكفِّرا ومهدِّدا (لقمان سليم، مكرم رباح، عصام خليفة، جلبير الأشقر،.. إلخ).
أنتَ حقا تُميتُ ذعرًا بمنصبك وتابعيك وصحيفتك وحزبك المسلّح الذي تستميت كي تبرهن له أنك الخادم الأفضل الذي لا يُستغنى عنه. وفي هذا، أنتَ لا تدرك أننا ندرك أنك لطالما ارتديتَ اللونَ الرابحَ وتلوّنتَ. هذا بالطبع خيارُك، ولك الحرّية في أن تختار، إلا أنّ الوقوف ضدّ الثوّار والمعترضين والمنتفضين والمطالبين، وممارسة الترهيب والتخوين والتكفير بحقّ من يتظاهرون ويجتمعون ويناقشون ويحاورون ويحلّلون ويُسائلون، ليس خيارا. إنه إعلان حربٍ ومزاولة بروباغندا مدمّرة خطيرة، مارسَها قبلك كثيرون ممّن خسروا لاحقا معاركَهم، لفظهم التاريخُ، ورماهم إلى مزبلته.
بيار أبي صعب، ثمّة روايةٌ مُشابهةٌ تنتظركَ.
نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"