مقاضاة إسرائيل دوليّاً.. هل ترتدع؟

مقاضاة إسرائيل دوليّاً.. هل ترتدع؟

23 ديسمبر 2019

تضامناً مع فلسطين أمام المحكمة الجنائية الدولية بلاهاي (29/11/2019/الأناضول)

+ الخط -
قال الرئيس الفلسطيني، محمود عباس، في تعليقه على تأكيد مكتب المدَّعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودا، إنَّ كل الشروط القانونية قد تحقَّقت لفتح تحقيق كامل في الأراضي الفلسطينية في دعاوى ارتكاب الاحتلال الإسرائيلي جرائم حرب: "أُهنِّئكم جميعا بهذا القرار، هذا يوم تاريخي، والآن أصبح بإمكان أيِّ فلسطيني أصيب جرَّاء الاحتلال أن يرفع قضية أمام المحكمة الجنائية". وهذه لحظة ابتهاجٍ أبداها أبو مازن بهذا الإنجاز، مذكِّرًا بالخطوات الفلسطينية المُصِرَّة على تجاوُز العقبات التي وضعتها الإدارة الأميركية أمام هذا الاستحقاق الفلسطيني، مرورًا بنيْل فلسطين صفة "عضو مراقب" في الأمم المتحدة، الأمر الذي أهّلها لدخول أكثر من مائة منظمة دولية، منها محكمة الجنايات الدولية.
وبعد إعلان المحكمة الجنائية الدولية هذا، عادت إدارة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للتأكيد على موقف واشنطن السابق الرافض لانضمام السلطة الفلسطينية إلى المحكمة الجنائية، ورفضت المساعي نحو محاكمة إسرائيل، دوليًّا، مستندةً إلى حيثيَّتين؛ أن إسرائيل مظلومة ومضطهدة، ونُقصان أهليِّة السلطة الفلسطينية للانضمام للمنظمة الدولية؛ لأنها بحسب التوصيف الأميركي، ليست دولة ذات سيادة. وزعم رئيس حكومة الاحتلال، بنيامين نتنياهو، أن المحكمة غير مختصَّة بالعمل في الأراضي الفلسطينية، وأن قرارها يُسًجَّل يومًا أسود للحق وللعدالة. كما ادّعى إن تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في الأراضي الفلسطينية يجعلها أداةً سياسيةً مناهضةً
 لإسرائيل، مستدعيًا الخلفية التاريخية والدينية، وهو بهذا يحاول إخراج القرار عن سياقه القانوني.
وكانت الولايات المتحدة، غير الموقِّعة على اتفاقية روما المؤسِّسة للمحكمة الدولية، (وكذلك إسرائيل)، من دون إعفائهما من ملاحقتها القضائية، فقد كانت قد توعَّدت، على لسان ترامب، المحكمة الجنائية الدولية، في إبريل/ نيسان الفائت، بأن "أيّ محاولة منها لاستهداف الولايات المتحدة، أو إسرائيل، أو أيٍّ من حلفائها، سيعرّضها لردٍ قوي". وقبل ذلك، قال وزير الخارجية، مايك بومبيو، إن الولايات المتحدة ستفرض قيودًا على إصدار تأشيرات سفر للمسؤولين عن أيِّ تحقيقٍ يستهدفها في المحكمة الجنائية الدولية، في خطوةٍ تهدف إلى منع أي تحرُّك ضد واشنطن وحلفائها في أفغانستان. وقبله، هدَّد مستشار الأمن القومي (السابق) جون بولتون بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية وقضاتها، في حال "لاحقوا أميركيين، أو إسرائيليين، أو حلفاء آخرين للولايات المتحدة".
وقد ردّت المحكمة الجنائية الدولية على التهديدات الأميركية بأنها "مؤسسة مستقلة وحيادية تحظى بدعم 123 دولة. وأنها ستواصل عملها من دون أن يردعها شيء، تماشيًا مع مبادئها ومع فكرة سيادة القانون الشاملة". ومع أن المحكمة أدرى بشؤون اختصاصها، وأدرى كذلك باستيفاء متطلبات فتح التحقيق، إلا أن المسار القضائي هنا لا يستقلّ عن الإطار السياسي. والخشية تبقى من السطوة السياسية للولايات المتحدة والتأثير الاحتلالي على إنفاذ تلك الأحكام 
في حال صدورها، علمًا أن واشنطن لم تمانع في استخدام المحكمة الجنائية، حين كان ذلك يخدم مصالحها.
كما تبقى محاذير سياسية من الجانب الفلسطيني؛ أن يَخفُت البُعْد الوطني في دهاليز المسار القضائي الطويل؛ فدولة الاحتلال ماضيةٌ بخطى حثيثة نحو فرض الوقائع على الأرض. ومن جديد تلك السياسة تعليماتٌ جديدة للجيش بالعمل على إقامة بؤرة استيطانية جديدة في قلب الخليل، وتوجُّهها نحو هدم ألف مبنى مقام في المناطق المسمّاة ج؛ ما يعني تأكيد السيطرة الاحتلالية عليها، وحرمان الفلسطينيين من التصرُّف والانتفاع، إلا بموافقته، من حوالي 60% من أراضي الضفة الغربية المحتلة. وهذا بعد تكرار إعلان نتنياهو، وبدعمٍ من أحزاب صهيونية دينية، وغير دينية، لضم منطقة الأغوار وشمال البحر الميِّت التي تشغل حوالي 30% من أراضي الضفة.
لا تبدو إسرائيل مهتمة بالقانون الدولي، وسِجلُّها في انتهاكه لا يعرفه الخبراء القانونيون فقط؛ لأنه صارخ؛ فهي تنتهك حقَّ اللاجئين الفلسطينيين في العودة، وحقَّهم في التعويض، وحق الشعب الفلسطيني في مقاومة الاحتلال. كما تتوسَّل لاستدامة احتلالها وتوسيعه، بجرائم الحرب والعدوان، وبتهجير الفلسطينيين ومنعهم من حقِّ العودة، وبالحصار، وبهدم المنازل، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وإقامة جدار الفصل العنصري، وبضمّ القدس وتهويدها، والجرائم المرتكبة بحق الأطفال والنساء، وبحقِّ الأسرى، وبجرائم الاغتيال، فأميركا توفّر 
الغطاء الفعلي على تلك الجرائم والانتهاكات، بل إنها باتت، في عهد ترامب، تشارك دولة الاحتلال تلك الانتهاكات، وقد رفضت أخيرا اعتبار المستوطنات والاستيطان غير شرعي. وهي، بالطبع، تستخدم أوراقها الثقيلة، الاقتصادية وغيرها، في الضغط على الدول، لتحييد القانون الدولي والملاحقة القضائية للاحتلال، تحت دعاوى سياسية، وغيرها، وبذريعة أنّ حلَّ الخلافات يجب أن يتمَّ في إطار المفاوضات، ولكن وبعد أن ظهر للعالم أن إسرائيل هي التي تعيق التوصُّل إلى حلٍّ سياسي، وأنها المتسبِّبة في وقف المفاوضات، وأنها لا تتورَّع، ولا تُخفي سياستها القائمة على الإملاءات، والخطوات الأُحادية، في اتجاه واضح وحادّ نحو العنصرية والإلغاء، وأن الطرف الفلسطيني، في المقابل، استوفى، ولا يزال، كامل الاستحقاقات التي تقتضيها الحلول السلمية والاتفاقات الموقّعة، لم تعد ذريعة الحلول السياسية ذات وجاهة، للحؤول دون تفعيل القانون الدولي، وإلزام دولة الاحتلال بالرضوخ له.
وبعد، ربما تأمل السلطة الفلسطينية، خلافًا للمطالبات القانونية، باستخدام هذه الورقة وسيلةً للضغط؛ من أجل إجبار دولة الاحتلال على العودة للمفاوضات، وَفْق المرجعيات الدولية، ولتنفيذ استحقاقات الاتفاقات المُبرَمة معها. وربما يمثِّل هذا المسار مَنْفَذًا ضروريًّا لها؛ لتُظهِر بعضَ الفعل، بعد أن أصبحت القضية الفلسطينية في منطقة حرجة، ومصيرية، فقد نالت إسرائيل منها ما تريد من اعتراف بها، وتنال منها بالتنسيق الأمني البالغ الحيوية، فيما تُطلَق يدُ إسرائيل بالاحتلال والاستيطان والتهويد.