ظلم العرب العربية

ظلم العرب العربية

23 ديسمبر 2019

(خالد الساعي)

+ الخط -
مات إمام النحاة العرب، عمرو بن عثمان بن قنبر الحارثي، الملقب بسيبويه، ألماً وحزناً لما رآه ظلماً لشخصه وإجحافاً بحقه كنحويّ. إذ دخل في جدالٍ ضد الكسائي، إمام النحو في المدرسة الكوفية، حول صياغة كلمة في جملة واحدة. وبعد أن تناظرا أمام يحيى البرمكي، وزير الخليفة العباسي هارون الرشيد، أقرّ البرمكي وندماؤه موقف الكسائي الذي كان مقرّباً إليه. ولثقة سيبويه في علمه وصحة موقفه، صُدم من موقف الوزير، ثم كانت صدمته الأكبر، حين علم لاحقاً أن الكسائي قد ألحّ على الوزير يحيى البرمكي، كي لا ينصر سيبويه عليه، وأجاب البرمكي طلبه. فأصيب عمرو بن قنبر بالاكتئاب، ورحل إلى بلاد فارس، واعتزل الناس، وغلبه الإحباط والانكسار، فعاش مغموماً حتى مات.
إلى هذا الحد كان الإيمان باللغة وتبجيلها، ولم يكن اعتداد النُحاة بقدراتهم اللغوية غروراً، بقدر ما كان حبّا في اللغة، وتمسّكاً بتكريمها وتجنب امتهانها. كان هذا في العصر العباسي، أما في عصرنا الحالي، فقد كان الأربعاء الماضي يوم اللغة العربية، ومرّ من دون أن يشعر به أحد. وربما يجهل معظم العرب أن في هذا اليوم أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة اعتماد اللغة العربية لغة للمنظمة الدولية وهيئاتها، وذلك في عام 1973، بناء على اقتراحٍ من السعودية والمغرب، لتكون العربية السادسة ضمن اللغات الرسمية للأمم المتحدة، إضافة إلى الإنكليزية والفرنسية والصينية والإسبانية والروسية. واحتفلت منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) للمرة الأولى باليوم العالمي للغة العربية في 2012. وبعدها بعام، قرّرت اعتماد 18 ديسمبر/ كانون الأول يوماً عالمياً للغة العربية.
وليس غريباً أن تُظلَم اللغة العربية بأهلها، فقد تخلّوا، قبل اللغة، عن الدين والتاريخ والحضارة، وكلها عربية، فإذا هانت هذه المشتركات العربية الأصيلة، حُق للغة العربية أن تهون عليهم وتُهان. إنها سلسلة متصلة، فالتخلي عن الدين أبعد العرب عن قراءة القرآن وتدارسه. ولم يعد للتاريخ أهمية، فصار منبوذاً لا تُستحبّ العودة إليه، كي لا يواجَه المعاصرون بضآلتهم أمام أسلافهم. ومع انحسار الثقافة وانحدار العلم والعلماء، تراجع الاقتصاد، وانهارت أممٌ عربية، كانت يوماً عظيمة، فوقع في قلوب العرب انبهار بالآخرين المبدعين، شرقاً وغرباً. وصرنا ننقل عنهم علماً وأدباً وثقافة، حملتها لغاتهم إلينا. وأصبح تعلّم لغة أجنبية شرطاً أساسياً، ليس فقط لدخول جامعة أو الالتحاق بوظيفة، بل تحوّل أيضاً إلى ميزة نسبية يتباهى بها الشباب والبنات عند مصاهرة الأغنياء والعائلات الكبيرة، من دون اشتراط إتقان اللغة العربية.
وتراجع المحافظون على اللغة العربية والمستمسكون بإجادتها، إلى أواخر الصفوف، بل أصبحوا مادّة للتندّر والاستهزاء، حتى أن كثيرين من أصحاب اللغة، والغيورين على القيم والثقافة العربية، يخشون على أبنائهم الأذى النفسي والسخرية، لمجرّد أن اسم الولد صهيب أو مصعب أو لبيب، أو اسم الفتاة خديجة أو مريم أو آسيا، ففي عالمنا المعاصر، يُنظَر إلى هذه الأسماء أنها مضحكة و"موضة" قديمة.
اللغة هي حامل المعنى وناقل الحضارة ومحرّك الثقافة. وكلما زادت مفرداتها اتّسعت معانيها، وصارت أكثر بلاغة وقدرة على التعبير الدقيق عن مقصود الكلام. وتضم العربية 12 مليون كلمة، بين جذور واشتقاقات، فهي أكثر لغات العالم ثراءً ودقة، إلى حد أن فيها اسماً دقيقاً لكل شيء، لا ينطبق إلا عليه. ومثلاً، توجد في العربية تسمية منفصلة لكل ساعة في اليوم. ولكل حيوان اسم، وآخر لزوجه وثالث لصغيره، بل ولكل حيوان اسم لبيته أو مكان نومه. تلك هي اللغة العربية، يا سادة، كان لها مكان ومقام على أيدي سيبويه وعند أهل زمانه، أما عندنا وبأيدينا فهي لغة كرّمها الله وأهانها الإنسان.
58A20E76-8657-4557-85A3-A5682BEB4B9A
سامح راشد

باحث مصري متخصص في العلاقات الدولية والشؤون الإقليمية للشرق الأوسط. درس العلوم السياسية وعمل في مراكز أبحاث مصرية وعربية. له أبحاث ومقالات عديدة في كتب ودوريات سياسية.