تونس.. تسع سنوات من الثورة

تونس.. تسع سنوات من الثورة

23 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
لمّا اندلعت ثورة الحرية والكرامة في تونس 17 ديسمبر/ كانون الأول 2010، تجاوز مداها المنطقة العربية ليصل إلى أصقاع العالم. ودخلت بعض الشعوب العربية في تحرّكات احتجاجية، ومسيرات حاشدة ساندت، في البداية، حراك الشعب التونسي، لشد أزره والدفع لإنجاح ثورته. وقد اعتبرت الثورة التونسية، في سياقاتها التاريخية والاجتماعية، زلزالا في الوطن العربي، ولدى الشعوب التي تبحث عن تغيير لواقعها الاجتماعي المتردّي، أو المطالبة بالحرية السياسية والديمقراطية الحقيقية وحرية الرأي والمعتقد والتنظم، وحتى الإثني بالنسبة لتلك الأقليات التي ظلت تعيش اضطهادا نتيجة انحدارها من عرقٍ أقلي. والأمثلة عديدة في البحرين والعراق وسورية والجزائر وغيرها.
وفي مجريات الأحداث، قام المصريون بتحرّك مساند للثورة في تونس في 15 يناير/ كانون الثاني 2011، ثم بدأ النشطاء يفكرون في تنظيم أنفسهم للقيام بحراكٍ مماثل، وكانت الدعوة إلى التظاهر عبر مواقع التواصل الاجتماعي يوم 25 يناير/ كانون الثاني. كما قام اليمنيون بتحرّكات مساندة للثورة التونسية يوم 27 يناير/ كانون الثاني، ليدخل الشعب اليمني في حراك احتجاجي بداية من يوم 11 فبراير/ شباط 2011، أسبوعا قبل انطلاق تحركات الشعب الليبي بإصلاحات ديمقراطية في بلده. ووصل صدى الثورة التونسية إلى البحرين، لتنطلق في 14 فبراير/ شباط حركة احتجاج، قادتها المعارضة ذات الأغلبية الشيعية، مطالبة بإصلاحات دستورية وإقالة الحكومة. وأسوة بالجارة تونس، ساند الشعب المغربي الثورات العربية التي سبقته، ثم أصبح يفكر في وضعه. وفي سورية، ينسج مواطن على طريقة التونسي البوعزيزي، ويُقدم يوم 27 يناير/ كانون الثاني على حرق نفسه، ليدخل الشعب السوري في تحرّكاتٍ 
غاضبة ضد النظام في 15 مارس/ آذار، احتجاجا على القمع والفساد الذي ينخر المجتمع. ولكن النظام ضرب بقوة، مستعملا كل وسائل القمع في محاولة لإيقاف الاحتجاجات، حتى لا يكون مصير الأسد في سورية كما مصائر زين العابدين بن علي في تونس وحسني مبارك في مصر ومعمر القذافي في ليبيا. وساند الشعب الجزائري الثورة التونسية منذ أيامها الأولى، من دون انتظار نجاح المسار، واندلعت تحركات يوم 12 يناير/ كانون الثاني، وتواصلت في كامل البلاد إلى حدود 15 إبريل/ نيسان. وقد استوعب النظام الجزائري الدرس مما حدث في تونس وفي غيرها، فقدّم تنازلات.
وقد أجمع متابعو ثورات الربيع العربي على أن الوطن العربي قاطبة لم يشهد في تاريخه الحديث تحرّكات بهذا الحجم، شمل الأغلبية الساحقة من حيث جغرافية الوطن وعدد سكان المنطقة العربية. وأرجعوا أسباب هذا الحراك إلى استبداد النظم القائمة والحكام الذين استلموا السلطة بعد الاستعمار، ولم يحققوا الرفاه الاجتماعي، ولا التحاق بلدانهم بركب البلدان المتقدمة، مع الإقرار بأن دولاً إمبريالية ساهمت في تأبيد التخلف وإشعال الحروب الداخلية وعرقلة مسارات التنمية والتغيير. علاوة على الفقر والبطالة والقمع، فقد بدأت المطالب المرفوعة من الثوار اجتماعية، ثم تحولت إلى مطالب سياسية بامتياز، رفعت فيها شعارات الحرية والتغيير والديمقراطية والتنظيم، لتصل إلى المطالبة بإسقاط الأنظمة ورحيل رموزها.
وبالعودة إلى التجربة التونسية، مفجرة الربيع العربي، والتي اعتبرت استثناء عربياً، ومن باب تجاوز دراسة تأثير الثورة التونسية على بقية الشعوب العربية ومساراتها التي أصبحت معلومة، فإن السؤال المتداول اليوم بين النخب، وفي الفضاءات العامة والمنابر الإعلامية، وبعد مرور 
تسع سنوات على هذه الثورة: هل حققت الثورة التونسية أهدافها؟ وإلى أي مدى يمكن الحديث عن مكاسب ثار من أجل تحقيقها الشعب التونسي؟
لقد قطعت تونس، منذ اندلاع ثورتها، عددا مهما من المراحل والمحطات السياسية، بدأت بتشكيل حكومة انتقالية وإقرار عفو تشريعي عام، وإطلاق الحريات، وانتخاب أعضاء المجلس التأسيسي في 23 أكتوبر/ تشرين الأول 2011، ووضع دستور جديد للبلاد، وقد برز خصوصا في هذه المرحلة دور كبير للمجتمع المدني، تعزّز فيما عرف باعتصام الرحيل وإسقاط حكومة الترويكا التي قادتها حركة النهضة، فيما عدَ تصحيحا للمسار، وما اعتبر، بحسب بعضهم، "أن الدولة والسلطة في عهد الترويكا رعت الإرهاب بعد اغتيال أربعة مناضلين من الجبهة الشعبية، شكري بلعيد ومحمد الإبراهمي ومجدي العجلاني ومحمد بن المفتي إضافة إلى لطفي نقض من حزب نداء تونس". وهي اغتيالات اعتبرت حدا فاصلا بين مرحلتين مهمتين في المسار الثوري، القطع مع حكومة الترويكا وإقامة حكومة انتقالية مستقلة تجسّمت في حكومة التكنوقراط برئاسة المهدي جمعة، المسنودة من الرباعي الراعي للحوار والمتوج بجائزة نوبل للسلام. ثم توالت الحكومات، ولكنها عجزت عن تحقيق وعودها ورغبة مواطنيها في العدالة 
الاجتماعية والتنمية الاقتصادية، فقد ارتفعت مؤشرات الفقر وتدنّت المقدرة الشرائية واستفحلت البطالة، وقرر تونسيون كثيرون الهجرة. وتؤكد الإحصائيات هجرة 180 ألفاً من الكفاءات التونسية إلى كل العالم، وفي مختلف الاختصاصات، لتحتل تونس المرتبة الثانية عالميا بعد سورية في هذا. إذ لم يرض الشعب التونسي بدستوره الجديد، وبما أعطي له من حرية الرأي والتعبير والتظاهر السلمي، ليستمر في الاحتجاج هنا وهناك. وجاءت انتخابات 2019 الرئاسية والتشريعية معاقبةً كل أطياف منظومة الحكم ورموز الأحزاب القائمة والطبقة السياسية عامة، ليتشكل برلمانٌ جديدٌ تغيب فيه الأحزاب ذات الأغلبية التي من شأنها أن تكون حكومة قوية، وتضع برامج واضحة قابلة للتنفيذ، ويُنتخب رئيس بشبه إجماع لكل التونسيين، غير أنه ظل صامتا لم يعلن مبادراتٍ من شأنها أن تسهم في تغيير الواقع، وتحقق شيئا من المطالب. معالم المشهد التونسي الراهن هي برلمان منقسم ودعوة إلى إعادة النظر في النظام الانتخابي، وتوجس من انتخابات مبكرة، وحكومة عصية على التشكل بسبب أحزابٍ تبحث عن الغنيمة والمحاصصة، ومؤسسة رئاسة صامتة على الرغم من عمق التحديات، وشعب حائر يسكنه الانتظار ويخشى المجهول.
في ظل هذا الواقع، نجحت الثورة في تونس يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011 في خلع رئاسة النظام، ولكن مسارها ما زال في مرحلة التشكل، وما يعتريه من هزّات واضطرابات، يمكن اعتبارها مقتضيات طبيعية للمرحلة وإرهاصات تاريخية شهدتها كبرى الثورات الناجحة في العالم. ويستشهد قارئون لتجارب الثورات بالمسار التاريخي الذي مرّت به الثورة الفرنسية وثورات أميركا اللاتينية وغيرها التي تحققت أهدافها عبر عشرات السنين، ما يحتم التأسيس الثقافي والتربوي، ويراعي عامل الزمن، من أجل توطين الديمقراطية، وتعزيز ممارستها لشعب يخطو على دربها خطواته الأولى.
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
35FE487F-4A9A-4B25-8DF9-AF430105714E
محمد أحمد القابسي

كاتب وأكاديمي وشاعر تونسي

محمد أحمد القابسي