لصّ الذهب

لصّ الذهب

22 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
هذه المرّة لم يطفئ المذياع، حتى ينتهي الرئيس من مقدمة خطبته التي بات يحفظها عن ظهر قلب: "اسمعوني جيدًا فكلامي من ذهب.."، فقد استوقفه خطبٌ جلل، وراح يفكّر مليًّا في العبارة.
"اللعنة.. كيف فاتتني هذه الثروة الضخمة طوال هذي السنين.. ما أبلهني.. إذا كان الرئيس نفسه يؤكد أن كلامه من ذهب، فلماذا لا أجمع كل خطب الزعيم ومقولاته وشعاراته وأبيعها؟". لم يتأخر صاحبنا في تنفيذ ما عزم عليه؛ إذ باشر فورًا في رحلة "الثروة": راجع أرشيفات الصحف والإذاعة والتلفاز؛ ليجمع خطب الرئيس و"معلّقاته"، ما قصُر منها وما طال، لم يترك "سوارًا"، أو "عقدًا"، أو "خاتمًا" من مقولاته إلا وجمعه، خصوصًا "سبائكه" التي صاغها طوال نصف قرن عن ضرورة "تحرير فلسطين"، فقد اعتقد أن هذه السبائك، تحديدًا، ذات سعر مضاعف عن غيرها؛ لأنها أصبحت مصوغاتٍ "أثريّة" لا يمكن العثور عليها إلا في كهوف النسيان، ولم يقلّل أيضًا من شأن "أونصات" كان يوزّعها الرئيس مجّانًا، عن "عدالة اجتماعية" ما، وعن "خطط إصلاحية قادمة لا محالة ولو على ظهر سلحفاة"، كما توقف مطوّلًا عند سبيكة "توزيع الثروة القومية على الجميع"، وأدرك أن الرئيس وزّع "الثروة" بالفعل، وبعدالة عبر خطبه "الماسيّة" التي شملت أفراد الشعب كلهم.
لم تكن المهمة سهلة، لكنها جرت بسلاسة، فقد كان يلقى صاحبنا ترحابًا مشوبًا بالرعب من موظفي الأرشيفات؛ إذ ساد الاعتقاد لديهم أنه "مخبر" يتحرّى التفتيش عمّا إذا كانت خطب الرئيس تحظى بحُسن التوثيق والتبجيل، فيما ظنّ آخرون أنه رجل دولة مهم منخرطٌ في مهمّة رسمية تتعلق بالرئيس نفسه. أتمّ مهمّته "اللامعة" بنجاح، مقرونة بدهشة بالغة، فقد ذُهل من حجم ما تراكم لديه من "ثروة" لا عدّ لأكياسها، وأيقن أنه يحتاج إلى أسطول من شاحنات لنقلها، وعاد ليثني على مبلغ ما تجشّمه الرئيس من عناء طوال عهده الميمون؛ ليراكم لشعبه الحبيب كلّ هذه "الثروة" المهولة.
كان أوّل ما فكر فيه صاحبنا، أن يعوّض زوجته عمّا باع من ذهبها خلال رحلة شقائهما التي توقفت عند "قلّاية البندورة" اليومية، فأمر أسطوله بالتوقف عند باب بيته ليفاجئها بالهدية، حتى إنه لم يترك لها فرصة تفقدها، فقد بلعت دهشتها حين رأته يحيط جيدها بعقد طويل من "الخطب" اللامعة. ثم قبّلها على عجل، وتوجّه من فوره إلى أسطوله، وأمره بالتوجه إلى أحياء الفقراء؛ ليوزّع عليهم ما فاتهم من فرص الثراء.. كان يعتلي شاحناته وهو يلقي عليهم "السبائك" و"المصوغات"، ويصرخ: "ذهب.. ذهب". وأخيرًا، كان عليه أن يهتمّ الآن بنفسه، ولن يتحقّق له ذلك إلا في سوق الذهب، فقد رأى أن يبيع جزءًا من ثروته للصّاغة.
عمومًا لم يطل بقاء صاحبنا في السوق، وظل ثمّة جانب غامض في محطته الأخيرة، لكن ما تداولته الحكايات يشير إلى أنه عندما حمل أول "عيّنة" من ثروته، واتجه إلى أحد تجار الذهب، دار بينهما حوار مرتبك، فقد أصرّ صاحبنا أن ما يحمله هو "ذهبٌ خالص بدمغة الرئيس نفسه"، أما الصائغ الذي أسقط في يده، فاضطرّ أن يبتلع لسانه؛ لأنه لم يقوَ على النفي الصريح، فالبضاعة تخصّ الرئيس، وهو مضطرّ أن يؤكد أنها "من ذهب"، لكنه تعذّر بأنه لا يمتلك سيولةً كافيةً للشراء، وهو أيضًا ما فعله التجار الآخرون.
عندما يئس صاحبنا، تمامًا، من بيع ثروته، باغته خاطر غريب: "الرئيس أوْلى بذهبه، فهو يعرفه جيدًا". لم يساوره أي تردّد، بل أمر "أسطوله" بالتوجه إلى قصر الرئيس؛ ليبيعه الذهب. لكن على مدخل القصر حدثت جلبة مماثلة من الحرس الذين تنازعتهم حيرتان بين إدخاله أو منعه؛ لأن البضاعة تتعلق بالرئيس. ولم يحسم الأمر غير خروج الرئيس نفسه لاستقصاء سبب الجلبة. وعندما عرفه، استشاط غضبًا، وأمر بالقبض على صاحبنا وإعدامه بتهمة "سرقة ذهبه".
EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.