السجع بين الجد والهزل

السجع بين الجد والهزل

22 ديسمبر 2019

(محمود شيخاني)

+ الخط -
يجدر بنا أن نولي السجع والقوافي ما يستحقّان من الاهتمام، لأن قسماً كبيراً من حياتنا يقوم عليهما، وتأثيراتُهما السلبية والإيجابية في ماضينا وحاضرنا جد خطيرة. ذهب نقادٌ معاصرون كثيرون إلى أن الأدباء في عصور الانحطاط العربية (أعقبت العصر العباسي) قد انشغلوا بالمحسّنات البديعية، كالسجع والطّباق والجناس والاستعارة والكناية والمقابلة على حساب المضمون. ولست أدري لماذا اعتبروا الاهتمام بالمحسّنات تخلفاً وانحطاطاً، فيا ترى هل كان الاهتمام بالمضامين على حساب المحسّنات البديعية سيؤدي إلى إنتاج شعر ونثر عظيميْن؟ 
لم يكن لدى العرب القدماء حَدٌّ يفصل بين عالمي السياسة والأدب. قلما يعثر المرءُ على سيرة أمير أو خليفة كان يُصَرِّفُ شؤونَ دولته بعيداً عن الشعراء، والمتأدّبين، وحتى العلماء، فكان هؤلاء يقفون في أبواب الملوك والخلفاء والأمراء، منتظرين أن تُوَارَبَ لهم، فيدخلوا ويلقوا أكاذيبهم المسجوعة أو المقفاة، عسى أن ينالوا عليها كمشةً من الدنانير.. إنها أكاذيب مصوغةٌ بجهد وأناة، بارعةٌ في إخراج الشخص الممدوح من عالم البشر وضمّه إلى عالم الأنبياء والأولياء الصالحين، فإذا ذُكِرَ اسمُهُ بالقرب من سماء مُمحلة، مثلاً، سرعان ما "تختفي منها النجوم، وتمتلئ بالمُزن والغيوم، وينهمر منها المطر، ويتحول الغيث إلى درر، وينبت الزرع، ويمتلئ الضرع".. أو كما قال الأخطل في وصف الخليفة: الخائضُ الغمرَ والميمونُ طائرُه، خليفةُ الله يُسْتَسْقَى به المطرُ.
وكان الملوك والخلفاء والأغنياء الممدوحون يبزّون حاتماً الطائي في البذل والجود، فإذا راقت لهم الأكذوبة الشعرية يأمرون خازن بيت المال بأن يحشو فم الشاعر الكاذب بالدُرّ، وإذا لم ترق لهم هزَّأوه وطردوه، وربما أمروا السيّاف بجزّ عنقه! وقد عبر أستاذنا أبو عثمان الجاحظ عن التلازُم بين هذين الفصيلين من البشر بحكايةٍ رواها في كتابه "البخلاء"، تقول إن رئيس الحكماء ومقدم الأدباء سئل: العلماءُ أفضلُ أم الأغنياء؟ قال: بل العلماء. قيل: فما بالُ العلماء يأتون أبوابَ الأغنياء أكثر مما يأتي الأغنياءُ أبوابَ العلماء؟ قال: لمعرفة العلماء بفضل الغِنى، ولجهل الأغنياء بفضل العلم.
لم يتغيّر مفهوم السياسة عند العرب منذ القدم، فهي تقوم إما على اغتصاب السلطة، أو على وراثتها، وكذلك الحال بالنسبة لوقوف الشعراء بأبوابهم، والدليل أن مجلس معمّر القذافي كان عامراً بهم، وكان بعضُهم يذهب إلى حافظ الأسد ويمدحه محوّلاً جرائمه إلى مآثر، وهزائمه إلى انتصارات، وقد زعم أحدُهم أن هذه الأمة العظيمة لم تلد خيراً منه حتى الآن، وآخرون فعلوا الشيء نفسه مع صدّام حسين الذي كان ينكّل بالشعب العراقي، والحبل على الجرار، حتى إننا قرأنا، قبل أسابيع قليلة، ما كتبه طلال حيدر في مديح ملك السعودية.
لعل أخطر ما أنتجته السياسة العربية هو الابتعاد عن المفاهيم السياسية المعاصرة، كالمواطنة، والديمقراطية، والتداول السلمي للسلطة، والسبب الرئيسي افتقار الحكام المتعاقبين الشرعية، وقدومهم إلى السلطة بواسطة الدبابات. وهذا ما جعل الناس في بلادنا ينقسمون إلى فريقين، أحدهما يتقرّب من السلطة الجديدة، ويهتف لقائدها، بطريقة السجع طبعاً: "أبو فلان لا تهتم، عندك ناس بتشرب دم".. و"بعثية نزلت ع الشارع، الله أكبر عَ اللي يمانع".. و"هيّ لنا هيّ لنا، ضرب السيف طاع لنا". وعندما اغتصب حافظ الأسد السلطة في سنة 1970 خاطبه أحد تجار دمشق بقوله: طلبنا من الله المَدَدْ، فأرسل لنا حافظ الأَسَدْ. ومع بدايات ثورة 2011 كتب أحد شبيحة بشّار على جدران مدينة دمشق: الأسد، أو نحرق البلد.
وأما المكتوون بنار الديكتاتورية فكانوا يسخرون من هذا الوضع الانقلابي المُزري، ويصوّرون قائد الانقلاب على أنه يقسم الشعب بين سجين وقتيل، مثلما قالوا في أمين الحافظ سنة 1963: "الشعب ع زمان السفاحْ، نص في سجن المزة ونص في مقبرة الدَحْدَاحْ".

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...