الحراك الجزائري ودعوة تبّون إلى الحوار

الحراك الجزائري ودعوة تبّون إلى الحوار

22 ديسمبر 2019
+ الخط -
مع انتهاء الانتخابات الرئاسية، يتساءل الجميع، في الجزائر، بعد دعوة الرئيس المنتخب، عبد المجيد تبّون، الحراك، بكل مكوّناته، إلى الحوار، عن مآل ما اعتدنا على رؤيته، منذ نحو عشرة أشهر، الآن، من يقظة وعي الجزائريين وإرادتهم للذّهاب، بعيدا، في التّغيير، حتّى وإن جرت سفن الحراك بما لا تريده إرادةٌ أخرى، إرادة السّلطة بتنظيم مخرج للانسداد من دون توافق مجتمعي. ولهذا، يجب أن ينصبّ التّفكير، منذ الآن، منذ اللحظة، على تثمين ما حدث من وعي، وتحويله إلى زخم لانطلاقة أخرى لبناء جزائر جديدة من خلال الحوار، كونه سياقا حضاريا رديفا لسلمية ما شاهده العالم من الجزائريين، الجزائر التي نتخيلها جميعا، وننتظرها في المستقبل القريب. 
من المنطقي أن يشهد بلد، مثل الجزائر، انسدادا عميقا في هذه السّنة، باعتبار أنّ جمودا متعمّدا كبيرا فُرض على كلّ مفاصل الدّولة من النظام، بكلّ بناه، هياكله وتوازناته، فترة قاربت العقدين، بل منذ الاستقلال. ومن المنطقي أن يكون المخاض صعبا ومعقّدا بالنّظر إلى رهانات التّغيير على جسم طريح الفراش لكلّ هذه الفترة. ولهذا جاء الحراك كأنّه الصّادم الكهربائي ليعيد القلب النابض للمغرب الكبير وغرب المتوسط إلى الحياة، من خلال شباب واع متطلبات الحياة، تحياتها وآمالها، ونحن في القرن الواحد والعشرين، قرن العلم والذكاء الاصطناعي.
من المنطقي، لمن يعرف الجزائر، ولمن يسمع، بعد مشاهدة جزء من محاكمات الفساد، عن
 الحاجة الملحّة لإزالة رموز النّظام البائد من المشهد كله، وهو من صميم مطالبات واعية وحضارية، في إطارٍ من السلمية، أن الانتخابات تمت بمشاركةٍ ضعيفة، بل وبمقاطعة، في بعض المناطق، على خلفية ثقافةٍ سياسيةٍ تهوى العزوف، وهي تريد، الآن، إرفاقه بالبقاء على وعيها في فرض رؤية أخرى، لتسيير السياسة العامة للبلاد.
شهدنا ونشهد وسنشهد هذه الثقافة السياسية تنمو وتتطوّر في عالمٍ بات قرية لا يمكن إيهام أبناء بلاد، بحجم قارّة، بأنهم بين خيارين، أن يعيشوا مأساة أخرى شبيهة بمأساة العشرية الدموية لتسعينيات القرن الماضي، أو أن يوقّعوا صكا على بياض لبقاء الأمور على ما هي عليه عشرات السنين.
العجيب في هذه الثّقافة السياسية أنها أثبتت وعي الحراك الليّن، من دون أدنى مساس لرموز وجود الدولة أو مؤسّساتها مدة قاربت، الآن، السنة، في حين نرى بلدانا أعرق من الجزائر ديمقراطية كيف أن مجرد خروج للشارع للاحتجاج أصبح يحمل نُذُر فوضى ودمار. والعجيب، أيضا، أنّك ترى كلّ هذا الزخم ثم تكون الاستجابة له بحلّ محبط. والأعجب أن تنتظر خوفا من مصيرٍ يُشار إليه، وذلك برئاسيات أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها إنها لم تكن الحلّ الأرجح صيرورة، هندسة وإخراجا. ولكن، بعد إجرائه وانتخاب تبّون رئيسا للبلاد، على الرغم من المقاطعة الواسعة، يجب الاتجاه إلى الواقع، والتعامل معه لهندسة واقع آخر وسياق مختلف، لأن الجزائر تستحق منا ذلك، جميعا، سلطة وشعبا، معا، على الدوام.
والإشكالية المطروحة، الآن، ماذا بعد هذا الإحباط؟ ما هي الجزائر التي سيكون على هذا الرّئيس التّعامل معها؟ سؤالان من الواجب طرحهما، لأنهما مناط وجوب التعجيل بالبيان وقت الحاجة، كما يقول الأصوليون. يمكن للإحباط أن يكون دافعا للتّفكير في صورة (وشكل) 
الوعي الذي على الجميع الآن تثمينه، والبناء عليه، لغد أفضل ومشرق، تستمر فيه المطالبات، لكن بخلفية الياباني الذي يزيد من الإنتاج، عندما يُضرب عن العمل، أي بمضاعفة جهود الوعي بالتحدّيات والدفع نحو رفعها، وبمضاعفة الجهود لابتكار حلول، وعرضها على الملأ، كما فعل سيدنا يوسف عليه السّلام، وهو في السجن، لم يبخل بحلّ معضلة الدولة التي فضّلت نسيانه داخل السحن، لأن البيان لا يجوز تأخيره وقت الحاجة.
وكما سبق بيان تلك الحلول في مقالات سابقة للكاتب في "العربي الجديد"، يجب الإبقاء على ذلك الزّخم، وكم هو كبير لدى عقول وكفاءات موجودة في كلّ مكان، وتريد الخير لبلادها، وإن حُكم بغير إرادتها، وهي مقاربة التغلّب، مرارا وتكرارا، على الإحباط، وتحويله أداة دافعة للابتكار والإبداع، وهي المقاربة التي طوّرها المؤرّخ البريطاني، توينبي، في إطار المعادلة المعروفة، التحدّي والاستجابة، وعمّقها المفكر الجزائري مالك بن نبي، عندما أومأ إلى الخليط الكيميائي الذي يجب أن يوجد لتحويل عناصر الحياة إلى أدواتٍ دافعة للحياة وصانعة للعروج الحضاري، على الدّوام.
أمّا عن جزائر الغد فهي، حتما، لن تكون شبيهةً بجزائر الأمس ولن تكون، أبدا، ساكنة وصامتة على ما تراه معوجّا، بل تعمد إلى تقويمه بالأدوات الابتكارية والإبداعية. وكما ابتكرت وعي الحراك الواعي والحضاري، واستمرّت به شهورا طويلة بالزخم والسلمية نفسيهما، فهي قادرة على صنع التغيير، وإنْ بأدواتٍ أخرى، ستفرض الرجوع إليها لاستشارتها والقبول بأدوات الوعي الموجودة لديها.
على النظام أن يعلم أن مشهد اليوم ليس مشهد سنوات الاستقلال، ولا مشهد تسعينيات القرن 
الماضي، لأنه، بكلّ بساطة، مشهد الرقمي، الافتراضي، والذكاء الاصطناعي وأدواته، الآن، متوفرة، وتفرض التغيير الحتمي البيولوجي، والسياسي، بل والاستراتيجي، أيضا. كما على النّظام، أيضا، أن يعلم أن تلك التكنولوجيات تفرض الوعي بتحدياتها، والرضوخ للاستجابة لها، ومن متطلباتها الأساسية الحرية، لأنها مناط التنافسية، تنافسية الوصول إليها، الإمساك بخيوطها ثم تحويلها إلى تطبيقات المستقبل، لحل مشكلات الناس اليومية. وعلى النظام، قبل بدء جلسات الحوار، بل قبل الاتفاق على من يجلس له مشاركا فيه، أن يعرف أن ثمّة إجراءات تهدئةٍ تسبقه، في بادرة حسن نية، ومنها إطلاق سراح سجناء الرأي، فتح المجال الإعلامي، ورفع إجراءات التضييق على الحراك. وعندها يمكن الانطلاق في حوار يكون، يقينا، مثمرا وبمخارج يتفق على إعمالها ومجسّدة، حقيقة لا مجازا، ولا مناورة، لمطالب الحراك من الذّهاب إلى جزائر جديدة. سيكون هؤلاء، مستقبلا، طرف الصراع الآخر في معادلة صنع التغيير، ولن يتمكّن النظام من فرض صورة ما لثقافته السياسية التي صنع بها بقاءه عقودا، وهؤلاء، كما صنعوا الحراك، سيفرضون مآلاته بأدواتهم السلمية والواعية.
مرّت الانتخابات الرئاسية، وتولّد عنها واقع جديد، فهي مرحلة، ولكن، على الجميع، الوعي بتحديات المرحلة المقبلة، مرحلة الاقتراح، الابتكار والإبداع على كل الأصعدة. مرحلة التمكين للحراك، ليتحوّل إلى مجتمع مدني، جمعيات ومؤسسات ابتكار. وقد تكون فرصة الحوار تحدّيا للحراك ليتمأسس، ويتحوّل إلى كيانات تصنع جزائر الغد التي لن تكون، حتما، شبيهةً بجزائر الأمس، أبدا لن تكون.