إصلاح النظام السياسي ومفهوم المعارضة المُلْتَبس

إصلاح النظام السياسي ومفهوم المعارضة المُلْتَبس

22 ديسمبر 2019
+ الخط -
المعارضة مجال سياسي عمومي مستقل نسبياً عن الدولة، يتوسّط ما بينها وبين المجتمع، تختلف طبيعتها، ومطالبها، ووسائلها، تبعاً لموازين القوى، وطبيعة النظام السياسي القائم. وبتوفّر الضمانات الدستورية، يمكن للقوى والجهات السياسية التي لم تستطع الوصول إلى الحكم من خلال الانتخابات أن تمارس دورها بوصفها معارضةً سياسيةً للنظام الحاكم، تعمل على الكشف عن أخطاء الحكومة وعثراتها، ومدى فشلها أو نجاحها في مختلف المجالات الإنتاجية والإدارية والتنظيمية.
في العالم العربي، احتكرت السلطة المجال العام، وحدث تداخلٌ بين الدولة والأجهزة الحكومية والأحزاب الحاكمة. ومع ضعف مؤسسات المجتمع المدني، انحازت النقابات المهنية إلى مصالح الحزب الحاكم، ومواقفه على حساب مصالح أعضائها، وغابت الضمانات الدستورية التي تحمي المعارضة من قمع السلطة، ولم تتوفر لقوى المعارضة إمكانية التحرّك النشط بين الجماهير، ما اضطرّها إلى اللجوء إلى أساليب العنف، فهدّدت دوامات العنف والعنف المضاد الاستقرار السياسي والاجتماعي، ونالت التشققات السياسية من الوحدة الوطنية، ما أفضى، غير مرة، إلى الحروب والصراعات الأهلية. في أحسن الأحوال، تسبّبت سياسات القمع والترويع للمعارضين في ابتعاد معارضين كثيرين عن العمل السياسي، والاكتفاء بالموقف الفردي المعارض، وبأحاديث الحجرات المغلقة، مع حذرٍ من آذان جدرانها. واختار آخرون الولاء للسلطة طمعاً في غنائمها، أو وجدوا أنفسهم في هيئات الحزب الحاكم منذ صغرهم، يحوزون عضويته، ويتدرّجون في مراتبه التنظيمية، شرطا لحصولهم على الوظائف، والمناصب، والخدمات غير المنقوصة، بل ومسلكا لحياة طبيعية، ينبغي ألا يشذ أحد عنه من دون دفع الثمن.
بعد هجمات "11 سبتمبر" في العام 2001، بدا الغرب السياسي، تقوده الولايات المتحدة الأميركية، مقتنعا بضرورة إحداث تحولات ديمقراطية في المنطقة العربية سبيلا لمكافحة 
الإرهاب القادم من الشرق. شمل ذلك إعادة تأهيل حركات الإسلام السياسي الموصوفة بالمعتدلة، وإشراكها في العملية السياسية. وفّرت أنظمة عربية، مُكرهةً، هامشا ديمقراطيا لم يتعدّ صناديق الاقتراع، بينما بقي التناقض قائما بين النصوص الدستورية وما تضمنته من قواعد وأحكام تشرّع الديمقراطية، وبين ممارساتها الفعلية، في غياب القضاء المستقل، وهيمنة المؤسسة الأمنية التي بقيت فوق القانون، تتدخل في شؤون المواطن وحياته اليومية وتفاصيلها. وعادت الإرادة السياسية الدولية، في دعم تحول ديمقراطي حقيقي، واصطدمت بسقف خشيتها من أن تحمل الديمقراطية إلى الحكم تياراتٍ سياسيةٍ معادية لمصالحها في المنطقة العربية.
الديمقراطية الشكلية، والمنافسة السياسية المضبوطة والموجّهة من السلطة، في غياب ضماناتٍ دستورية، كثيرا ما حرفت المعارضة عن أهدافها الوطنية، لتخون دورها التمثيلي، فتسعى إلى الجمع بين شرف المعارضة ومكاسب السلطة، وتصبح مشاريع وأدوات ٍسلطوية لاحتواء المعارضات الأخرى. مع استمرار السلطة بالنظر إلى الأحزاب السياسية أنها جزء من هيكلتها الإدارية، بدت المعارضة إحدى هِبَات السلطة، لا تعبيرا عفويا عن تفاعل مجتمعي بثقل سياسي، فبقي نشاطها تحت سقف ما وفرته لها تلك السلطة التي لم تكن جادّة في الإصلاح المؤسساتي والديمقراطي، ولا في القضاء على الفساد.
كانت أزمة المعارضة العربية سابقة للربيع العربي، لكن الأخير كشف عمق أزمة المجتمعات العربية التي طاولت وجهتي عملتها السياسية: المعارضة والنظام، وتزايدت القناعة بفشل النخب السياسية العربية في ممارسة السلطة والمعارضة في آن، حين عجزت الأخيرة، على اختلاف 
منطلقاتها الفكرية والأيديولوجية، عن تقديم نفسها بديلا سياسيا واجتماعيا موثوقا، وفي مستوى طموحات الشعوب. وكما فقدت السلطة السياسية مشروعيتها المتمثلة في توافق تصرّفاتها وقراراتها مع القواعد القانونية والدستورية وحقوق الإنسان، فقدت المعارضة شرعيّتها التي تستمدها من اقتناع شرائح المجتمع بأهدافها وبرامجها وممارساتها في صراعها مع السلطة. بدت المعارضة مفهوما ملتبسا، لم يعد كل من ينتقد النظام السياسي، أو يعارضه، أفضل منه بالضرورة.
أحيانا، اختطفت معارضات منظمة متنافسة الحراك الجماهيري العفوي الذي افتقد القيادة والتنظيم، وتشكّلت في معظمها حديثا وبتدخل خارجي، فبقيت تابعةً ومرتهنة للأجندات والمنافسات الدولية والإقليمية، وانزلق كثيرٌ منها في الأسلمة والعسكرة، ولم تؤمن بالديمقراطية، ولا بالشراكة السياسية، ولم تمتلك برامج تنموية وإصلاحية واضحة، ولم تحرص على الوحدة الوطنية قدر حرصها على ولاءاتها السياسية، فانقلبت الانتفاضات حروبا أهلية (سورية واليمن وليبيا). أحيانا أخرى، اختطفت الحراك أحزاب المعارضة التقليدية التي فشلت بعد نجاحها في الوصول إلى السلطة في تقديم أوراقِ اعتمادٍ ديمقراطيةٍ، فعجزت عن الحفاظ على مكتسبات الثورة، والوقوف في وجه الدولة العميقة، والثورة المضادة، فتخلى، مثلا، نشطاء كثيرون مؤيدون للديمقراطية عن جماعة الإخوان المسلمين في مصر، في نهاية المطاف، ودعموا انقلاب عبد الفتاح السيسي على محمد مرسي، رئيسهم المنتخب.
تلافت موجة الربيع العربي الثانية بعض أخطاء الموجة الأولى، خصوصا من جهة الحفاظ على سلمية الحراك، والتخلّص من أي مِظلّة أيديولوجية، وبدا الحراك أكثر تقنينا وتنظيما. في السودان، وعلى الرغم من إسقاط رأس النظام، أدرك المتظاهرون استحالة إسقاط بنيته التحتية بين ليلة وضحاها، فحدّدوا مطالب واقعية فاوضوا عليها المجلس العسكري، في مقدمتها تسليم 
السلطة لحكومةٍ مدنيّة، تدير مرحلة انتقالية، وفقا لما أقرّه "إعلان الحرية والتغيير" الذي تبنّاه تجمع المهنيين السودانيين وتحالف قوى الإجماع الوطني، ثم انضمت إليه قوى وتيارات أخرى. حال هذا الشكل الجديد للمعارضة دون بقاء الحراك عفويا مشتّت الأهداف، وبلا رأس.
في غير السودان، استمر الحراك بلا قيادة أو ممثلين معروفين يفاوضون النظام على مطالب واضحة، ويقدّمون رؤيتهم للمرحلة الانتقالية نحو نظام أكثر ديمقراطية. فبدون قيادة يلوذ المتظاهرون، في كل من لبنان والعراق والجزائر، بالشعار ذي الجاذبية الثورية: "إسقاط النظام" الذي يبقى مع ذلك أقلّ من أن يكون موقفا سياسيا تفاوضيا، ولا يمتلك معه المتظاهرون من وسيلةٍ لفرض التغيير سوى استمرار الاحتجاجات التي لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية. ناهيك أن استطالتها أكثر من اللازم، والبقاء في الشوارع من دون الجلوس إلى طاولة المفاوضات، وعدم الاستعداد للحلول الوسط، قد ينهك الحراك، ويوفر للنظام مزيدا من الفرص لاختراقه سياسيا وأمنيا وطائفيا.
من حق الجزائريين واللبنانيين والعراقيين أن يخشوا أن تختطف ثورتَهم أحزابهم وتياراتهم السياسية التقليدية التي أثبتت فشلها الذريع، ولكن لنا أن نأمل ألا يقف الحراك في هذه الموجة من الربيع العربي، أو في موجاتٍ ارتداديةٍ لاحقة، عند حركاتٍ مطلبيةٍ تسعى إلى تحسين مستويات المعيشة، ومكافحة الفساد، بل أن يكون أحد فضائل هذا الحراك أن يراكم باتجاه بلورة حركاتٍ معارضةٍ ديمقراطية، بتمثيل حقيقي، تُخلّص مفهوم المعارضة من التباساته، وتطرح نفسها بديلا موثوقا للنظام السياسي الفاسد غير الديمقراطي، وتطالب بمواطنةٍ حقيقية، وضمانات دستورية، ضمن برنامج سياسي إصلاحي واضح المعالم، لعل إصلاح المعارضة يبرز بوصفه أحد أهداف الحراكات الثورية هنا وهناك، فإن كان فساد المعارضة من فساد النظام السياسي، فإن صلاح المعارضة هي صلاح له أيضا.
حسام أبو حامد
حسام أبو حامد
كاتب وصحافي فلسطيني. من فريق موقع العربي الجديد قسم السياسة.