في وحدة الشعوب العربية .. المعنوية

في وحدة الشعوب العربية .. المعنوية

21 ديسمبر 2019
+ الخط -
فتحت ثورات الربيع العربي أمام الشعوب العربية أفقاً واسعاً لتبادل الاهتمام بالقضايا السياسية المحلية الجارية في مختلف الأقطار العربية. صحيحٌ أن تبادل الاهتمام لم يكن ليتاح لولا ثورة المعلومات وتنوع مصادرها، خصوصاً التلفزيونية، كذلك توفر منصات التواصل الاجتماعي، إلا أن من الموضوعي القول إن وقوع تلك الثورات دفع الشعوب العربية إلى الانشغال ببعضها على نحو لم يكن قائماً، خلال العقود الثلاثة الأخيرة على أقل تقدير. وفي الوقت نفسه، لا يزال نفر من العرب يحتجون على ما يعتبرونه تدخل أفرادٍ من شعوب عربية أخرى في شؤون بلدانهم، وهو تدخلٌ لا يزيد على إبداء واحدهم رأيه في ما يجري في هذا البلد أو ذاك. يدّعي هؤلاء أن قضاياهم لا تخص غيرهم، فلا يحق لغيرهم الحديث فيها.
والحق أن دعاة "عدم التدخل" ليسوا أكثرية، فقد هتفت الثورات العربية في الجزائر وتونس والسودان، وغيرها بطبيعة الحال، لصالح ثورات الشعوب الأخرى، وضد قوى الشد العكسي التي عملت على إحباطها، ولم يجد الثائرون هنا رفضاً من الثائرين هناك. والمعنى المباشر لهذا أن أنصار الثورات العربية هم الذين يعتقدون أن الشأن العربي واحد ومترابط، فيما أن رافضي الثورات من مؤيدي المستبدّين هنا وهناك، هم الذين يريدون أن يغلقوا حدود أقطارهم على أنفسهم، ويرفضون تبادل الاهتمام مع "أشقائهم"، ويرون في حديث العرب الآخرين عنهم انتقاصاً من قدرهم، متناسين أن الحال العربي واحد، فهم في الحقيقة لا يشعرون بقهر الاستبداد، ولا يرفضونه، ولا يشجعون الثورة عليه، بل يمثلون تلك القاعدة الانتهازية المستفيدة منه.
تدرك الثورات العربية إذاً أن الحال العربي في مواجهة الاستبداد والظلم والدكتاتورية، واحد. لعلها تدرك أيضاً أن نتائج الثورة في هذا البلد تنعكس، بالضرورة، على نتائج الثورة في بلدهم
بات هذا "الوعي" إذاً، جامعاً جديداً للعرب، يُضاف إلى عوامل اللغة والدين والتاريخ المشترك. ولعل من الجيد الانتباه إلى هذا بينما تمر في هذه الأيام الذكرى التاسعة لتلك المقدمات المفاجئة التي وقعت في محافظة سيدي بوزيد في الداخل التونسي، وأفضت إلى وقوع ثورات الربيع العربي في تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية والسودان والجزائر ولبنان والعراق، بصورة غيّرت ليس فقط الشكل السياسي للعالم العربي، وإنما أيضاً ما كان محسوماً حتى عشية تلك الأحداث، من أن العرب باتوا أمة خارج التاريخ، أي خارج الفعل والتأثير والحضور. ذلك أن تلك الثورات أظهرت العرب أمةً داخل التاريخ، وقادرةً على صناعته والتأثير فيه، والأهم أنها أعادت إظهار العرب أمة واحدة، ليس فقط لأن قضيتها الحضارية واحدة، بل لأن كل طرف فيها معني حقاً بالأطراف الأخرى، ومتأثر به.
ولكن اندلاع الثورات، وتبادل الاهتمام بها، لن يكون كافياً على المدى البعيد لتعميق الوحدة المعنوية للشعوب العربية. الأمر سيكون مرهوناً بنجاح الشعوب العربية في الانتقال معاً إلى حال حضاري يناسب ما بلغه عالم اليوم من مفاهيم، وخصوصا التقدّم في مجالات التنمية 
المادية كافة، بالتزامن مع إقامة "الدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي"، فلا يمكن أن تكون ثمّة "أمة"، بما ينطوي عليه هذا المصطلح من مدلولات عملية، ما دامت خارج التأثير الإنساني. وعلى هذا، لا يمكن أن تكون ثورات الربيع العربي ناجعة بالصورة التي تكرّس وحدة العرب، من دون أن تثمر ممارسة حقيقية لمفاهيم "الدولة المدنية والمجتمع الديمقراطي" التي يحوز المواطن الفرد بها قيمته وأهميته، ويكون إنساناً فاعلاً يتجاوز "عقدة التهميش" المفروضة عليه من ثنائية الدولة الأبوية والمجتمع النمطي ذي النماذج الجاهزة، وهي الثنائية التي سيطرت على العالم العربي قبل الربيع العربي، ولا تزال تواصل السيطرة عليه من دون أن يفعل الربيع العربي مفاعيل "الربيع" بها.
أما وجه الضرورة في أولوية تخليص الشعوب من التهميش، فلا يكمن في أن التهميش يهمل طاقات أفراد المجتمع، ويضعف الاستفادة منها وحسب، بل يكمن كذلك في انعكاسه السلبي على سلوك هؤلاء الأفراد في ما بينهم، لأنهم يسعون، بسبب شعورهم بالتهميش، إلى إثبات أنفسهم وجدارتهم في محيطهم الاجتماعي الضيق، فينطبع سلوكهم تجاه أقرانهم وشركائهم في الوطن والمجتمع بالعنفيْن، المادي والمعنوي، ما يشقّ وحدة المجتمعات، فلا يشعر أفرادها عندها بالرضا الذي يضمن فعاليتهم على أرض الواقع، وإقبالهم على المشاركة العامة.
وهكذا، إذا كان انتماء مجموعة من الأفراد إلى "دولة واحدة"، باعتبارها الإطار الذي يجمعهم ويوحدهم ويوفر لهم الحرية والأمان والاعتراف، إنما يتحدّد في ضوء مدى عمق قيمة "المواطنة" في تلك الدولة، بما تحمله من ضرورات المساواة والتكافؤ في ما بينهم في الحقوق والواجبات، وفي مقدمة ذلك الخضوع لسلطة القانون، فإن انتماءهم لأمة واحدة بات في عالم اليوم يتحدّد في ضوء مدى تكافئهم الحضاري، تحت مظلة العوامل التقليدية المشتركة، من لغة ودين وتاريخ.
1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.