خواطر وتذكير للذات عن الديمقراطية ونقاشاتها

خواطر وتذكير للذات عن الديمقراطية ونقاشاتها

21 ديسمبر 2019
+ الخط -
يرى صموئيل هنتنغتون، في كتابه "موجات الديمقراطية"، أنه لكي تنجح الثورات أو موجات التغيير، لا بد أن تزيد عدد الموجات الدافعة للديمقراطية عن عدد موجات الثورة المضادة، ووجود الثورات المضادة والكتل الرافضة للإصلاح والتغيير موجودة في كل التجارب. وفي الكتاب أيضا هناك تصنيف لموجات الديمقراطية، فالموجة الأولى بدأت في أواخر القرن التاسع عشر مع صعود الدولة القومية حتى منتصف القرن الـعشرين. أما الموجة الثانية فبدأت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وتطلُّع دولٍ كثيرة إلى الاستقلال عن القوى الاستعمارية. أما الموجة الثالثة للديمقراطية فقد بدأت في أواخر السبعينيات حتى نهاية القرن العشرين، مع تجارب التحول الديمقراطي في أميركا اللاتينية وآسيا، ومع الثورات والنضالات لإنهاء الحكومات العسكرية، ثم انهيار الاتحاد السوفيتي وما تبعه من ثوراتٍ ضد الأحزاب الشيوعية في شرق أوروبا ووسطها. وهناك باحثون كثيرون يعتبرون أن موجات التحول الديمقراطي في باقي شرق أوروبا في بداية الألفية الثالثة موجة رابعة، وهناك أيضا من يعتبر أن موجات الربيع العربي المستمرة موجة خامسة لم تنتهِ بعد. 
ولم تؤدِ كل تلك الموجات إلى النجاح في كل التجارب، فهناك موجات وثورات كثيرة انتهت بانتكاسات الأنظمة السابقة وانتصارها، أو إيجاد نظام حكم أكثر دموية وشدة مما ثار الناس عليه. ويحمّل بعضهم القوى الغربية والاستعمارية نسبة كبيرة من الانتكاسات، إما بسبب تدخّلاتها لدعم الحلفاء، أو لتعيين أشخاصٍ موالين، مهما كانت درجة انتهاكهم حقوق الإنسان، أو بسبب منظومة الحكم وإدارة الدولة التي وضعوها في عهد الاستعمار، والتي استمرت بعد التحرّر.
وفي كتاباتٍ أخرى، يمكن تقسيم مراحل التحول الديمقراطي لعدة مراحل، الأولى بداية التحول 
الديمقراطي، أو انطلاق الشرارة. وفي أغلب الأحيان، تكون لاحقة لحدث كبير، مثل حرب أو كارثة طبيعية أو اغتيال شخصية مهمة أو انقلاب، أو بدء إجراء انتخابات أو تزوير فج لانتخابات، تلي تلك المرحلة مراحل أخرى قد تمتد سنوات يكون فيها الكثير من التعبئة والجدال والتدافع، إلى أن تأتي لحظة التغيير حيث إزالة سلطة قديمة بوسائل باردة، كالانتخابات أو التفاوض أو عنيفة كالثورات والانقلابات.
لا تعتبر مرحلة تغيُّر سلطة ما أو نظام سياسي ما مؤشرا لنجاح التحول الديمقراطي، بل يلي ذلك مرحلة أكثر صعوبة مليئة بالشد والجذب والمواءمات والتحالفات، وهي مرحلة إقامة منظومة جديدة وقواعد جديدة وسلطة جديدة، وهذه مرحلة خطيرة، لا بد فيها من التوافق بشكل كبير بين الخصوم والأيديولوجيات المختلفة للوصول إلى منظومة وقواعد ملائمة للجميع، وتضمن المنافسة العادلة بعد ذلك، وإن فشلت تلك المرحلة أو تناحر الشركاء أو انتصرت الثورة المضادة، فذلك يعني فشل موجة التحول الديمقراطي. أما إن نجحت تلك المرحلة في الوصول إلى اتفاق بين كل الأطراف، فذلك قد يعني نجاح 50% من التحول الديمقراطي، حيث يلي ذلك مرحلة أكثر صعوبة.
المرحلة الأخيرة والأخطر هي مرحلة الاستقرار وترسيخ القواعد الجديدة، حيث تنشط فيها مجموعات الثورة المضادة والكتل المقاومة للتغيير، ومن تأثرت مصالحهم سلبا بالأوضاع الجديدة. بالإضافة إلى الممارسة العملية والوقت واختبار المبادئ المعلنة، وهذا ما قد يؤدي إلى ظهور خلافات ومشكلات جديدة لم تكن في الحسبان، وهو ما قد يهدّد استمرارية المنظومة الجديدة أو التحالف الجديد. وإن زادت المشكلات والانقسامات في تلك المرحلة، وأدّت إلى 
انسداد المسار السياسي أو عرقلته كثيرا، ويؤدي ذلك إلى نجاح الثورة المضادة والقوى المقاومة للأوضاع الجديدة، سواء عن طريق وسائل باردة، مثل انتخاباتٍ تعيد الأشخاص الذين تمت الثورة عليهم من قبل، أو عن طريق وسائل ساخنة كثورة جديدة أو انقلاب عسكري أو كليهما. وأحيانا قد لا يحدث ذلك، ولكن التجربة تتحول إلى نوع من الديمقراطيات الفاشلة أو المشوّهة، أو ما يطلق عليه بععضهم تحولا ليبراليا إجرائيا، وليس ديمقراطيا. وأما إن تم عبور المرحلة الثالثة من التحول الديمقراطي بنجاح، وترسّخت قواعد العمل الديمقراطي، وأصبحت جزءا من ثقافة المؤسسات والمواطنين وأدائهما، عندها يبدأ التفكير في مسائل أكثر رفاهية من الأساسيات.
ويصنف باحثون الديمقراطية ثلاثة أنواع: الكاملة أو المتجذرة، الجزئية أو المنقوصة أو التي لا يزال فها شوائب أو لا تزال في مرحلة التحول الديمقراطي، المشوهة أو الديمقراطيات الفاشلة، ويطلق عليها بعضهم الديمقراطية الكاذبة أو الصورية أو الإجرائية، وهي التي يحدث فيها تعثُّر في مراحل التحول الديمقراطي، ويتم الاكتفاء بالشكل والإجراءات التي يمكن إطلاق لقب تحوّل ليبرالي أو إجراءاتٍ ذات شكل ليبرالي، مثل وجود مؤسساتٍ تدّعي الاستقلالية، ووجود انتخابات شكلية، ولكن لا تسمح بتداول السلطة. وفي الديمقراطيات المشوّهة قد تستمر ممارساتٌ قديمة غير ديمقراطية، وقد يستمر بعض البيروقراطيين في بعض المناصب، وهم أنفسهم الذين خدموا في أنظمة غير ديمقراطية، أو متورطون في فساد سابق، ويصبح هؤلاء هم الكتلة المقاومة للتغيير والمقاومة للديمقراطية.
والديمقراطية المشوّهة أو الفاشلة لا يمكن وصفها أنظمة حكم ديمقراطية. وأيضا يصعب وصفها أنظمة حكم غير ديمقراطية. ويزعم كتّاب وباحثون أن الديمقراطيات المنقوصة أو المشوهة قابلة للإصلاح والتحوّل إلى ديمقراطيات حقيقية، وأنها، مهما كانت عيوبها وخداعها، إلا أنها أفضل من الثورات التي قد تؤدي إلى تدهور أكثر للأوضاع، أو قيام انقلاب عسكري يستمر فترات طويلة، فبناء المؤسسات أولا، والنضال من أجل استقلالها، وترسيخ مفهوم دولة القانون يعتبر مقدّما على المعارك السياسية وتداول السلطة. ونتائج الإصلاح التدريجي أفضل من الثورات والأفعال الراديكالية، ولكن آراء أخرى أكثر راديكالية ترفض ذلك الرأي 
الإصلاحي، وترى أنه إن لم يحدث تغيير جذري من البداية، ستستمر الديمقراطية المشوّهة المخادعة إلى ما لا نهاية، فهناك ديمقراطيات كثيرة مشوهة ترسخت واستقرت، ولم تتحول إلى ديمقراطيات حقيقية.
وبشكل عام، هناك عدة معايير يمكن بها تمييز الديمقراطيات الحقيقية عن تلك المشوّهة/ الفاشلة، منها مثلا الحق الكامل في التصويت بحرية تامة، وألا تكون هناك فئات من المجتمع محرومة من حق الممارسة السياسية، مثل الحق في الترشح والحق في الانتخاب والتصويت بحرية. وأيضا تعتبر الحقوق المدنية أو الحقوق السياسية من المعايير المهمة لقياس درجة ديمقراطية نظام الحكم، كحق التعبير عن الرأي وحرية التجمع والتنظيم، والحق في التظاهر والإضراب وكل أشكال التعبير عن الرأي أو الضغط، وكذلك درجة السماحية للمعارضة والتعبير عن نفسها، وكذلك الحق في المنافسة الحرة وتكافؤ الفرص، واستقلالية المؤسسات، وكذلك حرية المجتمع المدني ومساواة جميع المواطنين أمام القانون.
ترى كتابات أن الديمقراطية مرتبطة بالرأسمالية أو النمو الاقتصادي والليبرالي ضرورة مصاحبة للديمقراطية. ويشترط بعضهم العلمانية وفصل الدين عن الدولة أو السياسة ضرورة لحدوث الديمقراطية. ويعقد آخرون مقارنة بين الأديان، لإثبات أن المسيحية (خصوصا البروتستانتية) هي التي تصلح أكثر للديمقراطية، وتزامنت معها، في حين أن أديانَا، مثل الإسلام، لا تقبل الديمقراطية وتتصادم معها.
نظريات كثيرة أن الطبقة الوسطى المتعلمة هي الأساس لتحقيق الديمقراطية، فهي طبقةٌ تضغط من أجل مصالح مشروعة، مثل تعليم أفضل ورعاية صحية وإسكان ومواصلات، فلا ديمقراطية بدون برجوازية، في حين أن الماركسيين يعتبرون أن ديمقراطية البرجوازية ليست ديمقراطية حقيقية، إنما الديمقراطية لاحقة هي ديكتاتورية البروليتاريا. وتتحدث نظرات أخرى عن ضرورة التركيز في بناء المؤسسات ودولة القانون أولا، ثم ضمان التوازن بينها مرحلة لاحقة قبل البدء في المنافسة وتداوُل السلطة. وهناك من يرى أن الوعي هو الأساس، فالإجراءات الديمقراطية تكون شكلية، إذا طبقت في جماهير جاهلة ومنقادة، فرأس المال يشتري الأصوات، كما أن الشعب الألماني اختار هتلر في الانتخابات، على الرغم من الثقافة والتعليم والتقدم العلمي والاقتصادي، وهناك دول فقيرة استطاعت إقامة ديمقراطية راسخة ومستمرة، مثل الهند.
كلها نظريات قد تنجح هناك وتفشل هنا، ولا توجد تجربة تصلح للتطبيق في كل الأوقات، أو على جميع الشعوب التي لديها تفاصيل مختلفة وميراث وطباع ومشكلات، وخصوصيات مختلفة ومتنوعة. ولكن الديمقراطية قد تكون النظام الأفضل في أغلب الجوانب، على الرغم من أن دولا غير ديمقراطية، ومتقدمة في الوقت نفسه، علميا واقتصاديا، ويعيش أهلها في رغد ورفاهية بنسبة كبيرة. كما أن الديمقراطية لم تُنهِ الممارسات العنصرية والمطامع الاستعمارية الموجودة حتى اليوم بنِسَب متفاوتة وصور مختلفة، فلدى الولايات المتحدة ممارسات استعمارية كثيرة ظالمة، ولا تزال فرنسا وبريطانيا تحافظان بامتيازات الاستعمار في بعض مناطق إفريقيا وآسيا، والديمقراطية ليست جنة الله في الأرض، ولكنها قد تكون النظام الأكثر عدالة.
أما متى قد تنتصر موجات التحول الديمقراطي على محاولات التمسّك بالرجعية والسلطوية والاستبداد والفساد في أوطاننا. لا يزال هناك كثير من الوقت والمجهود، فقد حاولنا منذ سنوات وتوهّمنا أن محاولاتنا للتحول الديمقراطي قد نجحت في العام 2011. ولكن ظهرت مشكلات وقضايا عميقة كثيرة، لا تزال تحتاج لمجهود كبير وسنوات، حتى يتم حسمها أو تحييدها.
DE3D25DC-9096-4B3C-AF8F-5CD7088E3856
أحمد ماهر

ناشط سياسي مصري، مؤسس حركة 6 إبريل، حكم عليه بالحبس ثلاث سنوات، بتهمة التظاهر بدون ترخيص، وأفرج عنه في يناير 2017