الانتحار.. جريمة من؟

الانتحار.. جريمة من؟

03 ديسمبر 2019

(Getty)

+ الخط -
مصر هي الأعلى عربياً في معدلات الانتحار، حتى كتابة هذه السطور شهدت مصر ثلاث حوادث انتحار في أسبوع. شاب في كلية الهندسة ألقى بنفسه من فوق برج القاهرة. آخرون ألقوا بأنفسهم تحت عجلات المترو. الأرقام مزعجة، والفيديوهات مؤلمة، ولكن الأكثر إزعاجا وإيلاما التعليقات وردود الأفعال. الدولة اهتمت بنفي التهمة عن نفسها، إعلامها يستنكر، يتساءل أحدهم، في دهشة، لماذا ينتحر الشباب؟ فيما تكرّر الأخرى للمرة المليون: "الانتحار موجود في كل مكان في العالم". وحده الموت دليلٌ على أننا ما زلنا موجودين في العالم. انشغلت مواقع التواصل بمصير المنتحر في الدار الآخرة، ذهب أغلبهم إلى أنه سيرى ما رآه في الدنيا، هنا عذاب وهناك عذاب. المنتحر كافر، في رأي، ومؤمن في آخر. كلاهما يتفق على أن الانتحار ذنبٌ عظيمٌ من كبائر الذنوب، (بإجماع المسلمين كلهم كما يقول شيخ أزهري)، والمنتحر هو المسؤول، ولكن لا بأس أن نصلي عليه وندفنه في مدافن المسلمين، الله يقول "ولا تقتلوا أنفسكم". تفسيرها، وفق سياقها، ولا تكلفوا أنفسكم من الأعمال ما قد يقضي عليكم، وإن كانت فرضا. هكذا فهمها عمرو بن العاص، وصلى وهو جُنب في ليلة باردة. إلا أن شيخا مصريا فهم منها أن المنتحر قاتل. أحدُهم حمّل المسؤولية للظروف الدراسية القاسية. أستاذ في كلية الهندسة قرأ الكلام ولم يعجبه، فكتب يوبخ الطالب المنتحر، ويخبره بأنه "فرفور"، ولا يتمتع بالرجولة الكافية، لأنه لم يتحمّل ما تحمّله غيره من الطلاب، ذاكروا ونجحوا ولم ينتحروا! 
الانتحار مردّه الاكتئاب، والاكتئاب مرض، مرض حقيقي يفوق، في درجة إيلامه، أمراضا عضوية كثيرة، مرض يحتاج إلى علاج، كما يحتاج إلى الوقاية، مرض لا يشعر معه المنتحر بما يفعل، يتحرّك من دون وعي، من دون إرادة، فكيف يكون مذنبا، وكيف يكون مسؤولا؟ إلى الآن، تتعامل أسرٌ مصرية كثيرة مع الاكتئاب باستخفاف، لا يفهمونه، يعتبرونه "دلعا". أتفهّم ذلك من ربّات بيوت، لا من سياسيين وإعلاميين وأكاديميين، فضلا عن عمائم العلم والمعرفة والنور والبنور، تلك التي لا يعرف أصحابها عن علم النفس سوى أنه وسيلةٌ لإثبات الإعجاز العلمي في القرآن، وعن المرض النفسي سوى أنه ما يصيب العلمانيين فيتحوّلون إلى ملحدين. لم يتحدث "عالم" عن مسؤولية الدولة، وزارة الصحة، وزارة التعليم، الإعلام الكاذب، الأنظمة المستبدّة، عن نهب الناس وإفقارهم وتغييبهم وشل إرادتهم وتحويل حياتهم إلى عدميةٍ مقيتة، بوصفها أسبابا حقيقية للانتحار. على العكس، الناس مذنبون ومسؤولون، و"جدعنة" منا لن نخرجهم من الملّة، وسنصلي عليهم، شكرا لصلواتكم.
الانتحار حالة يتوقف فيها الوعي، يتعطّل، يتصور المكتئب أن المشكل أكبر من قدرته على الاحتمال، كما أنه أكبر من قدرته علي الحل. يعجز عن تجاوز لحظة ستمر، ولا يجد من يخبره أنها ستمر، بل يجد في واقعنا من يسخر من محاولاته للتجاوز، للفهم، للشكوى، للصراخ. يجد من يخبره أن المشكل في ضعف إيمانه، وأن العلاج ليس في عيادات الطب النفسي أو أدوية الاكتئاب، بل في العودة إلى الله، يجد من يتاجر بعذاباته، ويحصد من ورائها إعجاباتٍ ومتابعات، يجد من يخوّنونه ويشكّكون في انتمائه لبلاده، تكفير من نوع آخر، تحلّ فيه الدولة محل الله، والوطنية السمجة محل العبادة.
أغلب الحالات التي نشهدها في مصر منذ انقلاب 3 يوليو في 2013 كانت لمثاليين، انتظروا من الواقع ما ليس فيه، اصطدموا، لم يحتملوا، اكتأبوا وماتوا. هنا جزء آخر، وليس أخيرا، من المسؤولية. الجزء الأخطر، يتحمّله صيارفة النضال، باعة الوهم، من منحوا هؤلاء الشباب آمالا كاذبة، من أوهموهم بما لا يملكون عليه دليلا واحدا سوى نصبهم واحتيالهم، أو أمانيهم وخيالاتهم. من عطّلوا لديهم ملكات التفكير لصالح الهتاف، النقد لصالح المزايدة، التسييس لصالح التسليم لحتمية متخيلة بانتصار حقهم على باطل الدولة، فكم منتحرٍ يلزمنا لنتوقف؟

دلالات