البنية الاستبدادية وثنية سياسية

البنية الاستبدادية وثنية سياسية

20 ديسمبر 2019
+ الخط -
بسندٍ متصل ومتواصل في تراثنا الحضاري، سنجد الشيخ محمد الغزالي، وفي إسهامه في تشريح البنية الاستبدادية فكرا وممارسة، يتبوأ مقاما رفيعا في تحليل الظاهرة الاستبدادية وتفسيرها؛ ومن ثم لا نستطيع أن نغادر تلك الصفحة التي توقف عندها عبد الرحمن الكواكبي في علاقة الإسلام بتلك الظاهرة والموقف الواضح والحاد منها، بكلماتٍ تصدع بالحرية، تطلق قذائفها على كل مظاهر الاستبداد ومكامنه من كل مكان وفي كل ميدان؛ حتى لو كان ذلك الميدان يتمثّل في بعضٍ من صفحات تاريخ المسلمين، فالموقف واضح لا مواربة فيه، ومقاومة كل صوره مهما التمس لها بعضهم من معاذير أو تبرير لا هوادة فيها. في كلمةٍ قاطعةٍ جامعةٍ مانعة، يقول الشيخ الجليل "إن عبادة القصور شكّلت على امتداد العصور ديانة خسيسةً، عزّزها الحكم الفردي بالأقزام والأفاكين، ديانة هزمت الإسلام الحق في ميدان الحياة العملية، وجعلت العبقريات تتوارى، والإمّعات تتكلم بصوت جهير"، لم يكن ذلك إلا أحد مظاهر "أزمة الشورى في المجتمعات العربية والإسلامية"، واحد من أهم كتبه بعد كتابه عن "الإسلام والاستبداد السياسي" وكتابه "الفساد السياسي في المجتمعات العربية والإسلامية (أزمة الشورى)".
أراد الشيخ محمد الغزالي، في صيحته لمقاومة الاستبداد، أن يسطّر كلماته تلك في مقاومة الطغاة وطلب الحرية في نصوصه الحرّة التي كتبها؛ ليكون ميلاد كتابه عن الاستبداد السياسي دروسا كتبها في الأسر، وكتابا لم يملك المستبدّون مع قذائف الحق التي أرسلها إلا أن يصادروا كلماته الحرّة في نصه الحر، فصادروا الكتاب فور نشره؛ فقد ذاق الغزالي مرارة الاستبداد، 
مستضعفاً أسيراً مهدور الحقوق في معتقل الطور، فوضع بذرة كتابه هذا من خلال دروسٍ ألقاها على بعض زملاء الأسر، ثم نشره بحثاً متكاملاً بعد خروجه من السجن. يقول عن كتابه إنه رأى ".. أن من واجبه أن يقضّ مضاجع البغاة، ويبصر الضحايا الغافلين بعواقب تراخيهم وكسلهم، وأن يسير على دربٍ من ضحوا بأنفسهم نصرة للحق، معلناً أن الحق الذي يعتز بتضحياتهم لن يهتز بعد رحيلهم". كذلك أراد الغزالي كتابه تعويضاً عما يراه غياباً لدور العلماء في توعية المجتمع والوقوف في وجه المستبد ونزواته، إما لغموضٍ عندهم في التصوّر الإسلامي لأسلوب الحكم، أو لإيثارهم السلامة، نائين بأنفسهم عما يُغضب السلطان، بل يرى "أن بعضهم تجاوز ذل السكوت إلى عار التملّق، فأصبحوا يصنعون الفتاوى المكذوبة لتسويغ مآثم الحاكم، فيشوّهون ضمائر العباد ويسيئون للإسلام ويرفعون الثقة عن العاملين للدين".. الكتاب من أشهر كتبه، صدرت طبعته الأولى عام 1949 وصدر قرارٌ بمصادرته فور نشره، وقُدِم للمحاكمة بتهمة مهاجمة الحكومة على أثره، ويعتبره كتاباً لكل العصور والأنظمة، وحتى بعد سقوط الملكية رفض ضغوط رجال المباحث لتعديل بعض محتوياته.
يكتب، ومن دون مواربة، ليربط بين الطغاة من الحاكمين المستبدّين والغزاة المحتلين من المستعمرين "إن بلاد الإسلام في هذا العصر وفي العصور القريبة السابقة تحمل كفلين من العذاب: أحدهما من وطأة الغرب المعسكر بقواته الكثيفة من المحيط إلى المحيط، والآخر من غدر الحكام المشايعين له، ومن أوضاعهم الملفقة وفسادهم العريض، احتلال مزدوج ضاقت الأمة به ذرعا، وأضناها أنها ما إن تنتهى من صراع أحدهما حتى يأخذ الآخر بخناقها، والغريب أنه في الأقطار الإسلامية التي لم يسفر الاحتلال الغربي فيها، أو التي رابط على حدودها وحبس المسلمين داخلها، كجزيرة العرب، تضاعف فيها فساد الحكم وازدادت أغلاله، 
كأنما كتب على المسلمين البائسين أن يحملوا قيدين حتما، فإذا لم يكن ثمة قيد أجنبي فإن الولاة الأخيار (!) كفلاء بصنع قيد.. وقيد..!!. أما المشاهد التي عرضت لنا في السجون والمنافي فقد علمتنا ما لم نكن نعلم! وفقهنا على ضوئها معاني آيات كثيرة من الكتاب الكريم، ويوضح موقفه القاطع من الاستبداد فيقول: كنت أكره الاستبداد قبلا كرجل خلقه ربه حرًّا، فلما لعقت مرارة القلة والاستضعاف والاختطاف، ووجدت زمامي يلعب به السفهاء كما كان صبية مكة يلعبون قديما بالحبل الذي ربط فيه بلال بن رباح رسبت مشاعر الحقد في أعماق قلبي، وفهمت كيف أن اندحار الأعداء يشفي صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم". إنها التجربة الحية والخبرة المرّة والعبرة الكبرى يسطّرها الغزالي، طلبا لكل معاني الحرية ومقاومة لكل مداخل الاستبداد، فكتابته مغموسة بالكفاح من خلال تجربته التي كابد فيها مرارة الاستبداد، وعايش فيها سجون الطغاة والتنكيل بالبلاد والعباد.
كلمة التوحيد كلمة تحرّر وحرية، وإن حالة الاستبداد ليست إلا وثنية سياسية ".. الإسلام والاستبداد ضدان لا يلتقيان"، ".. فتعاليم الدين تنتهي بالناس لعبادة ربهم وحده، أما مراسيم الاستبداد فترتد بهم إلى وثنية سياسية عمياء، ولا يمكن أن يعيش الاستبداد هانئاً أو مستريحاً في بيئة ينتعش فيها الإسلام؛ لأن الثاني عدو الأول اللدود"، وعلماء السلطان أو العلماء الصامتون عن قول الحق والصدع به من أهم أركان الاستبداد وسدنته؛ فيقول ".. لقد تتبعت أقوال طائفة من المتحدّثين عن الإسلام، فوجدت تصوّرهم لأسلوبه في الحكم غامضاً، وآذاني أشد من ذلك أنهم وقفوا مكتوفي الأيدي أمام الافتيات المستمر على سلطان الأمة كأن ما يحدث تحت سمعهم وبصرهم خارج عن الدائرة التي يختص الدين بالفتوى فيها .. إن بعض الواهمين عندما 
يروّعهم فساد الحكم وشرور المجتمع، فيذهبون إلى الدين يطلبون الحل لما يعانون من أزماتٍ معنتة، ربما توقعوا أن يمدّهم الدين ببرامج مفصلة وشروح دقيقة لما يقع ولما يتوقع من طغيان، وما دروا أن الظلام الضارب في كل أفق يرجع إلى تجاهل وصية بدهية من وصايا الدين، أو الخروج على تعليم واضح من تعاليمه".. إنه الإدراك العميق لبنية الأفكار والممارسة التي تحكم حلقات الاستبداد؛ والدين منها براء، إن طبعة دين الحرية ومقاومة الاستبداد والطغيان وكل سياسات الظلم وآلياته فهما وإدراكا حركة وتفعيلا وممارسة إنما تعبّر عن الفهم الرصين للدين وتأثيره في واقع حياة عالم المسلمين.
والحل المكين على حد إشاراته وتنبيهاته بما ورد في كتابات الشيخ محمد الغزالي "وأريد أن يدرك العاملون في مختلف الجماعات والهيئات الإسلامية أن خدمتهم لدينهم لن تتم ولن تخرج ولن تسير في صراط مستقيم إلا إذا نضج في أذهانهم الفهم السليم لحقوق الإنسان، واكتمل في صفوفهم الدفاع العنيف عنها". وتظل تلك الكلمات الحرة في نصوصه الحرّة تأتي مدوية "... أشيعوا الحرية والعدالة والفضيلة، أقيموا فرائض الإسلام على أنقاض الوثنية السياسية والاجتماعية، تظفروا بوضع متناسق في الداخل وكرامة موفورة في الخارج... وإلا.. فلا إسلام.. ولا سلام". ومناط الحل في أصول قيمية وفكرية وبنية حقوقية شورية.
ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".