معلمي في المحكمة

معلمي في المحكمة

18 ديسمبر 2019

(محمد نصر الله)

+ الخط -
لم أتوقع أن ألتقي بمعلمي الذي علّمني اللغة العربية في المرحلة الثانوية في إحدى قاعات المحاكم، وذلك لأنني كنت أحمل كل الاحترام والتبجيل لكل معلم ومعلمة تعلمت على يد أحدهما حرفا. ولم أكن أتخيّل، حتى وقت قريب من طفولتي البريئة، أن المعلمة مثل باقي البشر، وربما تخيّلتها مثل الملائكة، فهي لا تتخلص من فضلاتها في الحمام، ولذلك لم أتوقع أن يهان ويذلّ و"يتمرمط" هذا المعلم الذي كنت أحجز المقعد الأمامي لأكون ملاصقةً لطاولته، لكي ألتقط كل حرفٍ يتفوه به، خصوصا حين يخرج عن الدرس، ويبدأ في شرح بيت شعر خارجي، فكنت أسرح مع مفردات الشعر الجاهلي الغريبة، مثل جلمود صخر امرئ القيس.
وهكذا كانت للمعلم مكانته عند جيلنا، وربما استقى المعلم الفلسطيني مكانته من دوره الكبير والعظيم عبر التاريخ، فاستحقّ أن يخصَص له يوم للاحتفاء به، وهذا أقل ما يمكن لمعلمي فلسطين، الأحياء والراحلين منهم، لأن هذا الجيل تحمّل متاعب كثيرة في سبيل إيصال العلم إلى التلاميذ الصغار في خيمة اللجوء الغارقة أرضها بماء المطر، والذي اختلط بالرمل، فتحول إلى وحلٍ تغوص فيه القدم، وتتلوث الملابس المهترئة من الأساس، ولكن ذلك لم يمنع أن يقف المعلم شامخا، ويرفع له اللاجئون الفقراء أكفّهم بالتحية.
للمعلم الفلسطيني دوره النضالي أولا في حرصه على تعليم نفسه، على الرغم من ظروف الحياة في ظل الاحتلال، ثم نقل رسالته إلى الأجيال التي يعلمها وهو على رأس عمله، متحملا ومتجشّما كل الصعاب، من أجل توصيل تلك الرسالة، فلا يمكن أن ننسى، نحن جيل انتفاضة الحجارة، ما تعرّض له معلمونا من قمع وإذلال من الاحتلال، وهم يصرّون على إكمال المسيرة التعليمية، من خلال ما عرف وقتها بالتعليم الشعبي، أي التعليم من البيوت، في ظل نظام إغلاق المدارس والجامعات، وكذلك فرض حظر التجول على السكان أياما طويلة. وأذكر في ما مرّ بي أنني لم أداوم في المدرسة أكثر من أربعين يوما، عندما كنتُ طالبة في الثانوية العامة، ولكن ذلك لم يمنع انتظامي مع زميلاتي في مجموعات صغيرة، وتوجهنا إلى بيوت المعلمات خصوصا، حرصا منا على إتمام تعليمنا، على الرغم من الوضع السياسي المشتعل وقتها.
ومما يسطّر للمعلم الفلسطيني بحروف من ذهب أن هذا المعلم قد أصرّ على الثبات والصمود، ووقف شامخا كصخرةٍ تكسّرت فوقها محاولات الاحتلال للنّيل من صمود الأجيال الفلسطينية في مدارس مدينة القدس، وما تتعرّض له المدينة من محاولات التهويد وفي البلدة القديمة من مدينة الخليل، وفي غزة، وفي مضارب البدو البعيدة والمدارس المقامة على تخوم المغتصبات، والتي يبدو الوصول إليها مستحيلا، بسبب ما يحيق بها من مخاطر. ولكن المعلم الفلسطيني استطاع أن يصل إليها ليجعل من نضاله محطّاتٍ محلقة في سماء العطاء والتضحية، وقد سقط جرّاء نضاله هذا العديد من الشهداء والجرحى، وهناك من فقدوا أطرافهم، وأصرّوا لمواصلة الوصول إلى مدارسهم، وشرح دروسهم من فوق كراسيهم المتحرّكة.
المعلم الفلسطيني هو أبي، وقد كانت له مواقف كثيرة خلال انتفاضة الحجارة، فكثيرا ما قطع المسافات البعيدة على قدميه، وسلك الطرق الملتفة ليصل إلى مدرسته. وكثيرا ما تعرّض لقنابل الغاز المسيل للدموع، وهو يحاول أن ينقذ تلاميذه الصغار من بين أيدي الجنود، ومات أبي رحمه الله بألمٍ دائم في ساقه، بعد أن حاول أن يقفز مع تلاميذه من فوق سور المدرسة في أثناء مداهمة الجنود لها.
كل ما قدّمه المعلم الفلسطيني على مر تاريخ فلسطين النضالي لا يمكن أن يفيه حقه بيوم من الاحتفال. وربما كنا تلاميذ نجباء نكن المشاعر الصادقة لمعلمينا، فبادلنا عطاءهم بالوفاء. ولذلك، استهجنت أن أرى معلمي في المحكمة، وقد منعني الحياء أن أسلم عليه، ولكني نظرت له نظرة امتنان، وتمنّيت أن يعود بي الزمان إلى الوراء، لكي أستمع منه لشرح قصيدة، ولكن هيهات أن يعود الزمان.
avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.