معركة تركيا في ليبيا

معركة تركيا في ليبيا

18 ديسمبر 2019
+ الخط -
بتوقيعها مذكرة التفاهم مع ليبيا بشأن تقاسم الحدود البحرية شرقي المتوسط، تكون محاولات تركيا تأكيد حضورها قوة إقليمية كبرى في المنطقة قد بلغت مداها. ظهرت رغبة تركيا في تعريف دورها إقليميا ودوليا مباشرة بعد نهاية الحرب الباردة، ودخلت أطوارا مختلفة، تخبّطت خلالها في تحديد اتجاهاتها. يمّمت، بادئ الأمر، شطرها شرقا نحو جمهوريات آسيا الوسطى التي تربطها بها روابط تاريخية وثقافية واقتصادية، لكنها فشلت في تحقيق غاياتها، بحكم الجغرافيا وبحكم الرفض الروسي أيضا. عاودت بعدها التوجّه غربا في محاولةٍ جديدة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، لكن هذا لفظها، لتعود وتحاول الاستجابة لمقتضيات وضعها الجغرافي وهويتها الثقافية والحضارية وتتجه جنوبا، حيث فرصتها الرئيسة للصعود، في غياب منافسين حقيقيين، سواء من الدول العربية أو إيران.
بدأ تنفيذ الفكرة بشيء من السذاجة أول الأمر من خلال تبنّي استراتيجية "صفر مشاكل" التي ابتدعها أحمد داود أوغلو، ولكن الربيع العربي أيقظ تركيا من أوهامها السياسية، ووضعها أمام فرصٍ كبيرة ومخاطر أيضا. اغتنمت تركيا رياح الربيع العربي، فتمدّد نفوذها حتى بلغ ذروته عام 2012، ولكن الأمور اختلفت بعد ذلك، وبدأت عملية التراجع والانكماش، حتى باتت حكومة "العدالة والتنمية" نفسها مهددة بالسقوط بين أحداث حديقة غازي في إسطنبول عام 2013 ومحاولة الانقلاب العسكري عام 2016. خلال هذه الفترة، واجهت تركيا ضغوطا إقليمية ودولية كادت تبعث الفوضى في أركانها، لكنها تمكّنت من مواجهة هذه الضغوط بفضل عوامل إقليمية ودولية، أهمها عودة التنافس بين القوى الكبرى، وظروف المواجهة الإيرانية - الأميركية، وتخلخل وضع أوروبا بعد قرار بريطانيا الخروج من الاتحاد الأوروبي، ورغبة الرئيس الأميركي، ترامب، الانسحاب من سورية، وغير ذلك.
تعتقد تركيا الآن أنها في وضعٍ يمكّنها من معاودة العمل لانتزاع دور يتوافق مع قدراتها وإمكاناتها، فهي ثاني قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، والاقتصاد رقم 19 في العالم، وتملك الإمكانات البشرية والتقنية للتحوّل إلى مصنع المنطقة وسلة غذائها. ولكن تركيا تدرك أيضا أن الظروف التي واجهتها خلال العقد الماضي حالت دون تحقيق هدفها الكبير، التحول الى الاقتصاد العاشر في العالم بحلول الذكرى المئوية لإنشاء الجمهورية عام 2023، لا بل تراجعت خلال العامين الماضيين من المرتبة 17 إلى المرتبة 19 اقتصاديا، والمحاولات مستمرة لحصارها ومنعها من إطلاق كامل إمكاناتها للتحوّل قوة إقليمية كبرى.
أحد أهم التحديات التي تواجه تركيا، وتعيق وصولها إلى مرتبة القوة الإقليمية الأكبر في المنطقة، افتقارها مصادر طاقة. في العام 2018، بلغت فاتورة الطاقة التركية 43 مليار دولار، وهي تمثل 20% من إجمالي فاتورة الاستيراد البالغة 223 مليار دولار. وعلى الرغم من أن هذا المبلغ لا يعد صغيرا، إلا أنه ليس التحدي الأهم. فتركيا تستورد 80% من احتياجاتها من الطاقة من روسيا (60%) ومن إيران (20%). ورغم تحسن العلاقات بين تركيا وكل من روسيا وإيران، خصوصا بعد تأسيس مسار أستانة للتعامل مع الصراع في سورية، إلا أن الدولتين تعدّان منافسين كبيرين لتركيا في المنطقة، وعلاقتهما معها معرّضة للاهتزاز في أي لحظة، ما يعني أن تركيا سوف تبقى تحت رحمة هذا الثنائي، فيما يتعلق بإمدادات الطاقة.
من هذا الباب، مثلت اكتشافات الغاز والنفط الكبرى في شرق المتوسط فرصةً كبيرةً لتركيا لتحقيق استقلالها الطاقوي، ولكن القلق من انبعاث نفوذها دفع خصومها إلى محاولة استبعادها وحتى حصارها، ففي مطلع هذا العام، أنشأت مصر وإسرائيل واليونان وقبرص اليونانية، بمباركة روسية، "منتدى غاز شرق المتوسط"، تقاسمت بموجبه هذه الدول حدودها البحرية، وأقرّت اتفاقات تعاون فيما بينها لاستغلال موارد النفط والغاز. وبتوقيعها اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، تكون تركيا قد قلبت الطاولة على خصومها، وأبدت استعدادا أيضا للمخاطرة حفاظا على مصالحها في ليبيا، حيث تذهب تقديرات بوجود مشاريع بدأتها تركيا أيام النظام السابق، وتزيد قيمتها عن 12 مليار دولار. ولكن معركة تركيا في ليبيا لن تكون أسهل من معركتها في سورية، فالحليف الأميركي غير مضمون، والأوروبيون يعارضون، والروس يبدون شراسة، وإلى جانبهم عرب كثيرون.
AA8F4D7D-04C2-4B96-A100-C49FC89BAEBA
مروان قبلان

كاتب وباحث سوري