تعقيب .. لحكومة التكنوقراط مهمات أخرى

تعقيب .. لحكومة التكنوقراط مهمات أخرى

18 ديسمبر 2019
+ الخط -
تناول الكاتب عمار ديوب في مقالته "هل الحلّ في حكومات التكنوقراط؟" (العربي الجديد، 12/12/2019) الدعوات إلى تشكيل حكومات تكنوقراط في السودان ولبنان والعراق بالتحليل والتعليق، وخلص إلى أنها حكومات غير صالحة لحل المشكلات التي تواجهها هذه الدول، وهي نتيجةٌ بناها على نظرة خاصة لطبيعة حكومة التكنوقراط ووظيفتها، بالإضافة إلى عدم إعطاء الظرف السياسي الذي قاد إلى تبنّي الدعوة إلى تشكيل حكومات تكنوقراط في السودان ولبنان والعراق، وانعكاسات الصراع الدائر بين النظام والحراك الثوري في هذه الدول على حكومة التكنوقراط ووظائفها، والنتائج المحتملة لذلك، عدم إعطائه حقه من الاهتمام. وأشار الكاتب إلى الصراع وضرورة التغيير، ولكن من دون النظر في دلالة ذلك ومفاعيله، فقد تناول الموضوع باعتبار وظيفة حكومة التكنوقراط هي فقط إصلاح الوضع الاقتصادي في البلاد بالنهوض بالصناعة والزراعة وتأمين فرص عمل.. إلخ، وهي نظرة جد ضيقة، ذلك أن طبيعة حكومة التكنوقراط ووظائفها مرتبطةٌ، بشكل رئيس، بالظرف السياسي الذي استدعى طرحها، وتم التوافق فيه على تشكيلها، والصفقة التي سمحت بولادتها والبرنامج الاقتصادي والسياسي الذي تبنّاه بعد تشكيلها.
وكان عالم الاقتصاد الأميركي، البروفسور والت وايتمان روستو، قد كتب في كتابه "مراحل النمو الاقتصادي" الذي أصدره عام 1960 أن مهمة حكومة تكنوقراط تنفيذ انتقال سياسي من النظام الشيوعي إلى النظام الرأسمالي، وحدد لذلك ثلاث مراحل، تبدأ أولاها باستعارة بعض التقنيات من النظام الرأسمالي، لإزالة كوابح النمو في قطاعاتٍ معينة من الاقتصاد والإدارة الاشتراكيين. وثانيها التوسع في الاستعارة وما يصحبها من تخلّ عن جوانب من الأيديولوجية الشيوعية. وحين يتبيّن أن التجربة، بدل أن تساعد على حل المشكلات، أربكت الاقتصاد والإدارة والحزب، تبدأ المرحلة الثالثة المفتوحة على استعارة بلا حدود لآليات اشتغال النظام الرأسمالي، مصحوبة بتخل مواز عن الأيديولوجيا الشيوعية التي لم يعد لها مكان أو وظيفة، فيبدأ عندئذ انهيار النظام الذي يمكن اعتباره مرحلة رابعة. فالدعوة إلى حكومة تكنوقراط في ظل وضع ثوري: نظام عاجز عن حل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي تواجهها البلاد، من جهة، وقوى اجتماعية ساخطة تطالب بالإصلاح أو التغيير، من جهة ثانية، وفشل النظام في احتواء الحراك الشعبي أو إجهاض تحرّكه، فتوازن القوى غير مواتٍ للحسم، من جهة ثالثة، وعدم امتلاك القوى الاجتماعية سبلا قانونية ودستورية لتحقيق مطالبها المحقة، فتلجأ إلى الشارع معتمدة التظاهر والاعتصام والعصيان المدني وسائل ضغط لدفعه للقبول بالتغيير الشامل، بعد أن اتضح فشله وعجزه وفساده وعدم وجود فرصة لخروجه من حالته، من جهة رابعة، غير الدعوة لتشكيل حكومة تكنوقراط في ظل أزمة اقتصادية طارئة أو استعصاء سياسي نتيجة صراع حزبي على السلطة.
في الحالات موضوع البحث، 
التي نجمت عن اعتماد نظام محاصصة طائفية وسياسية، ما قاد إلى النزوع نحو القطيعة الكاملة معه، ورفض التفاوض معه، والانتقال من المطالبة بالإصلاح إلى المطالبة بالتغيير الشامل، بإسقاط الأنظمة القائمة الذي عكسته الشعارات الرئيسة في ساحات التظاهر والاعتصام: "تسقط بس" في السودان، "يتنحاوا قاع" في الجزائر، "كلن يعني كلن" في لبنان، "شلع قلع" في العراق.
هنا جاءت الدعوة إلى تشكيل حكومة تكنوقراط، ليس لإصلاح الوضع الاقتصادي وتحقيق النهوض، كما يرى عمار ديوب، بل كمرحلة انتقالية نحو التغيير السياسي الشامل. حكومة تكنوقراط من خارج النظام وقواه السياسية، مهمتها الأولى كفّ يد النظام وقواه السياسية عن مقدرات البلاد، ووضعها بيد حكومة تكنوقراط من أجل إدارتها، من جهة، وفتح الباب أمام التأسيس للانتقال السياسي نحو نظام جديد، من جهة ثانية، فأساس الدعوة إلى حكومة تكنوقراط هنا هو فشل الأنظمة القائمة وفسادها والصراع المحتدم بينها وبين الحراك الشعبي المنادي بالتغيير وتوازن القوى والضغوط المتبادلة بينها وقواها السياسية، من جهة، وقوى الحراك الشعبي، من جهة ثانية، والتي ستقود إلى انتصار أحد الخصمين أو الذهاب إلى حل وسط: صفقة، نتيجة تعادل القوى وانعدام فرصة الحسم لدى أحد الطرفين، بالاتفاق على حكومة تكنوقراط وفي ذهن كل طرفٍ أنه قادر على تجيير المرحلة لصالحه. وكان لافتا أن الحراك في لبنان والعراق قرن مطالبه بمحاربة الفساد واسترداد الأموال المنهوبة وتوفير فرص عمل ومستلزمات العيش الكريم والخدمات بالتغيير السياسي، لأن أي إصلاحٍ جزئي في البلاد، أو تقديم خدمات بشكل مؤقت بدون إصلاح سياسي شامل، ولو على مراحل، هو إجراء لن يُكتب له النجاح في المستقبل. ولذا ستكون حكومة التكنوقراط، إذا تم الاتفاق عليها، بعد وصول الحلول الأخرى إلى طريق مسدود، وتشكّلت، ثمرة مساوماتٍ
سياسية في ظرف ضاغط: حراك ثوري كبير ونظام عاجز عن توفير مخرج من المشكلات التي أفرزها في إدارته البلاد طوال السنين الماضية. هذا يجعل قول الكاتب "والمشكلة أنهم غير منتخبين، وآراء أخرى تؤكد أنهم غير ديمقراطيين، ولا يولون أهمية كبرى للقوى السياسية والحزبية، حيث يتم اختيارهم بشكل غير ديمقراطي"، غير ذي معنى، لأن الظرف الذي دفع إلى الاتفاق على تشكيل حكومة تكنوقراط والبرنامج السياسي والاقتصادي الذي يمكن أن تنطوي عليه الصفقة وليد ظرفٍ غير عادي؛ ظرف ثوري استدعى التصرّف خارج الأطر القانونية والدستورية والآليات القائمة، لأنها لم تعد تناسب المرحلة أو تستجيب لمتطلباتها، وخط طريق للخروج من الاستعصاء الراهن، يمكن أن يقود إلى تغيير شامل.
يمكن تتبع ما يدور على الساحتين اللبنانية والعراقية من حوار مباشر وغير مباشر ومساومات جادة بين النظام وقواه السياسية وقوى الحراك، حيث تطرح المخارج والمقترحات من النظام وقواه السياسية، وتنتظر رد فعل الحراك لتعيد الكرة بحلول معدلة أو بديلة. طرح في لبنان التراجع عن الضرائب التي سبق إدراجها في الموازنة وإصلاحات اقتصادية، ثم رزمة إصلاحات، وحكومة مختلطة تكنوسياسية، ترافقت مع محاولة اللعب على المشاعر الطائفية، وترهيب الحراك عبر تهم التبعية والتمويل الخارجي، وعبر هجمات أتباع حزب الله وحركة أمل على ساحات الاعتصام والاعتداء على المعتصمين وحرق الخيم، ودفع الجيش إلى فض الاعتصامات وفتح الطرق بالقوة، والعودة إلى تجاهل الحراك، بالدعوة إلى حكومة شاملة لدفعه إلى اليأس والعودة إلى بيت الطاعة. وفي العراق، وعود بفرص عمل ومشاريع إنمائية وخدمية، قانون انتخابات جديد، عنف مباشر وقتل بوحشية في ساحات التظاهر واغتيالات وخطف 
خارجها للترهيب، والقبول بحكومة تكنوقراط تسمي القوى السياسية وزراءها من بين محازبيها. خطوات تسعى إلى إجهاض الحراك، ودفعه إلى الخروج من الشارع أو شراء موافقته بالوعود والقرارات.
لم يكتف الكاتب بقولبة التكنوقراط بوصفهم بـ"غير منتخبين"، و"غير ديمقراطيين" و"لا يولون أهمية كبرى للقوى السياسية والحزبية"؛ بل وزاد بتقييد تصوراتهم وقدراتهم بقوله: "إنهم لا يمتلكون رؤية اقتصادية للمشكلات الاقتصادية والاجتماعية خارج السياسات الليبرالية العالمية، وهيمنة الدول العظمى على بلادهم! وأنه ليس في مقدورهم تجاوز الخطوط الحمر للقوى الطبقية والسياسية التي جاءت بهم إلى الحكم"، ويحكم عليهم بالفشل "قلت، الأمر غير ممكن بالنسبة لهم خارج سياق السياسات الليبرالية الجديدة، ولكن البلاد المتأزّمة تتطلب غير ذلك، والبدء بمشاريع اقتصادية وطنية كبرى، تتناول النهوض بالصناعة والزراعة أولاً، وتفعيل التعليم والوعي والقضاء على كل شكل للتمييز بين المواطنين، لا سيما بين الجنسين ثانياً؛ والمشاريع هذه تتطلب حتماً صداماً مع القوى القديمة، واستعادة الأموال المنهوبة، وتغييراً كبيراً في القوانين ليكون بمقدور القضاء وجهاز الشرطة متابعة هذه القضايا، ثالثاً.". قول فيه من التعسّف الكثير، كان دونكان ماكدونيل وماركو فالبروزي قد عرّفا رئيس الوزراء أو الوزراء التكنوقراطيين في كتابهما "تعريف وتصنيف التكنوقراطية وقيادة التكنوقراط" المنشور عام 2014 بالقول: "في وقت تعيينه في الحكومة؛ يجبُ ألا يكون قد شغلَ أي منصب عام تحت رايةِ حزبٍ سياسي وألَّا يكون عضوًا رسميًا في أي حزب كما يجب عليهِ أن يمتلك خبرة سياسية غير حزبية مُعترفًا بها، والتي لها صلة مباشرة بالدور الذي سيشغله في الحكومة"، فقول الكاتب: "الأمر غير ممكن بالنسبة لهم خارج سياق السياسات الليبرالية الجديدة" تبسيطي، لأن التكنوقراط ليسوا نسخة واحدة، أو لونا واحدا، فلهم إلى جانب تخصّصاتهم وخبراتهم منطلقاتهم وانتماءاتهم وخياراتهم الشخصية المتعدّدة والمتباينة، ولأن العبرة ببرنامج الحكومة الذي يحدّد طبيعة المهمة وشروط تنفيذها، والمدى الزمني لهذا التنفيذ والأهداف المتوخّاة منه؛ فثمّة تباين منطقي بين الذهاب إلى حكومة تكنوقراط لمواجهة أزمات اقتصادية أو سياسية طارئة والذهاب إلى حكومة تكنوقراط تحت ضغط حراك شعبي يطالب بتغيير النظام السياسي برمته. هنا تأتي حكومة تكنوقراط ضمن برنامج إصلاحي أو ثوري، وهذا يفسّر، إلى حد كبير، رفض قوى الأنظمة خيار حكومة تكنوقراط، فما يحدّد طبيعة حكومة التكنوقراط مهمتها وبرنامج عملها.
قراءة المشهد السياسي في لبنان والعراق قراءة دقيقة ومتأنية لا تسمح بالجزم بتحول تشكيل حكومة تكنوقراط إلى أمر واقع بعد، فالدعوة إلى حكومة تكنوقراط من الحراك الشعبي لم يقابلها النظامان وقواهما السياسية، إلى الآن، بإيجابية، بل قابلاها بالرفض، متذرعين بالدستور والمؤسسات الوطنية، ويوم تتحوّل الدعوة إلى حل متفق عليه يكون النظام قد سلم بمطالب الحراك بالتغيير الشامل، من دون أن يعني ذلك أن التغيير الشامل بات مضمون التحقق، لأن الفترة الانتقالية ستكون فترة صراع مرير على كل جزئية وتفصيلة في برنامج الحكومة العتيدة، على أمل تجيير مسيرتها لصالح قوى النظام الراهن وخياراته السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وهذا يستدعي من قوى الحراك الشعبي الاستمرار بالتظاهر والاعتصام والصمود في وجه محاولات حرفه عن مساره أو تدجينه أو تمزيق وحدته الداخلية، حتى تتم الموافقة على حكومة تكنوقراط، والاحتفاظ بزخمه طوال فترة التنفيذ بالبقاء في الصورة ومتابعة القضايا والحلول التفصيلية يومياً.