بين مطرانيْن

بين مطرانيْن

17 ديسمبر 2019

عطا الله حنا وإلياس عودة

+ الخط -
في غمرة تفاعلات ثورة أكتوبر الجارية في بلد الطوائف والمصارف، حيث وقْع الكلمة أشدّ دوياً من أزيز الرصاصة، تحدّث متروبوليت بيروت، المطران إلياس عودة، خلال ترؤسه قداس الأحد المقام في كاتدرائية الروم الأرثوذكس، بصورة فاجأت جمهور مستمعيه في لبنان والخارج، قائلاً، بنبرة مفعمة بالأسى والغضب، "في هذا البلد يحكم شخصٌ تعرفونه جميعاً، ولا أحد يتفوّه بكلمة، يُحكَم من جماعةٍ تحتمي بالسلاح (...)، شخصٌ لا نعرف ماذا يعرف، يتحكّم بنا، يُرجع إليه، ولا يُرجع للأعلى منه". وقد أثار هذا التشخيص، الصادر عن شخصيةٍ دينيةٍ وطنيةٍ مرموقة، زوبعةً سياسيةً صغيرةً في لبنان، وعمّق خلافات المختلفين على كل شاردة وواردة في البيت الصغير، بين من رأى أن المطران، المعروف بشجاعته الأدبية منذ أربعين عاماً، قد وضع إصبعه على الجرح، وقال ما لا يجرؤ الآخرون على قوله تحت سطوة السلاح وأصحاب القمصان السوداء، وبين من وصف كلام القائم بأعمال الكرسي الأنطاكي بالهرطقة، كلام عملاء ومرتزقة، متساوقاً مع الحملات الإسرائيلية ضد المقاومة، ليس بريئاً كما ليس من يقوله بريئاً.
كان مقدّراً لهذه الزوبعة الضئيلة أن تذهب أدراجها وسط هذا الفيض المتلاطم من التصريحات والمواقف والتحرّكات، لولا أن مطراناً آخر من فلسطين دخل على الخط، وأدلى بحديثٍ خلافيٍّ نادر بين رجال الكنيسة، سيما داخل طائفةٍ بعينها، قال فيه المطران المفوّه، عطا الله حنا، إن ما صدر عن المطران إلياس عودة كلام مرفوض وغير مبرّر وليس مقبولاً، كون المعني به أمين عام حزب الله، الأمر الذي صب قليلاً من الزيت على نارٍ كانت تذوي من تلقاء نفسها، وربما أوقد مطران سبسطية جمرة أخرى في موقد الكنيسة الأرثوذكسية المشتعل.
قبل الشروع في هذه المقاربة المسكونة بالحذر والحرج، سعيتُ عبر محرّك البحث الإلكتروني إلى الوقوف على ما أثاره هذان الموقفان المتعارضان من نقاشات، والتعرّف على السقف المسموح به من الانتقادات، فلم أجد سوى مداخلة واحدة مرّت مروراً عابراً على هذا الخلاف الطارئ بين المطرانيْن المرموقين، الأمر الذي بدا لي معه أن المنطقة الفاصلة بين صاحبي الغبطة محظورة على الدخول، إن لم تكن منطقة محرّمة، وبالتالي فقد تكون هذه المطالعة يتيمة الأب، تفرّدت وحدها في تسليط الضوء على شأنٍ بدا وكأنه يخص طرفيْه فقط، ويقع خارج السجال العام.
غير أن البعد السياسي الكامن في الموقفين الصادرين عن رجلَي دين محترميْن، والوزن الاعتباري الراجح لكلا المطرانيْن اللذين كثيراً ما يخوضان غمار السياسة بجرأةٍ مشهودة، ولا يتردّدان في التعبير عن مواقفهما الوطنية بصراحةٍ تامة، جعل الباب مشرعاً أمام كل ذي مشتغلٍ في المجال العام، للإدلاء بدلوه الصغير في بئر هذه المسألة المثيرة للجدال السياسي المفتوح، ومن ثمّة الخروج بوجهة نظر موضوعية ما أمكن، قد تميل إلى رأي هذا الجانب أو ذاك، من دون أن تسيء لصاحبه على أي حال.
وهكذا، فقد أجزت لنفسي قرع الباب المغلق على ذوي القامتين الوطنيتين الرفيعتين، واستئذانهما الانضمام إلى النقاش، بعد أن اجتاز كلاهما، برشاقة، حيّز الخطاب الديني الخاص إلى مربع النقاش السياسي العام، سيما وأن المطران الشاب المولود في بلدة الرامة الجليلية، دلف بمفره، دون غيره من رجال الكنسية الأرثوذكسية، أو غيرها من الكنائس الأخرى، سواء في فلسطين أو في لبنان، عتبة مسألة خلافية مزمنة وشائكة بين "الأفرقاء"، تقع في صميم الوضع الإشكالي المعقد في بلاد الأرز، مسألة بقيت تنذر بالانفجار عند كل منعطف، لكنها ظلت، لحُسن الحظ، تحت السيطرة النسبية بين المعنيين بها طوال الوقت.
وعليه، ومع بالغ الاحترام، فقد بدا المطران عطا الله حنا، وهو صاحب مواقف وطنية فلسطينية لا حصر لها، في هجمته الكلامية الضارية على المطران عودة، طرفاً وليس حكماً، زاجراً وليس ناهياً، حتى لا نقول إن حماسته المفرطة لحزب الله قد حادت به عن القول التصالحي التسامحي الموزون بميزان الذهب لدى رجال الدين، الأمر الذي شقّ على محبيه أن يروا هذا المناضل النبيل يصطفّ وراء حزب الله، كتفاً إلى كتف مع قاسم سليماني وقيس الخزعلي، وغيرهما من سدنة المشروع الإمبراطوري الإيراني.
من اللافت، أنه بفعل افتقار حزب الله لأي صوتٍ داعم له ضد المطران عودة، فقد قام الحزب "الممانع" بتوزيع فيديو تصريح المطران عطا الله على محازبيه، واحتفل به إعلامياً.
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي