موقعة المستشفى الأميركي الفلسطينية

موقعة المستشفى الأميركي الفلسطينية

16 ديسمبر 2019
+ الخط -
أخذا بتقليدٍ عربيٍّ ذائع، جرى في لبنان شيءٌ منه أخيرا، وينشط في مصر في غير أمر، استخدمت رئاسة السلطة الفلسطينية في رام الله، أو حركة فتح (هل من فرق؟)، المفتي العام للقدس والديار الفلسطينية، الشيخ محمد حسين، في المعركة الناشبة منذ أسابيع ضد المستشفى الميداني وحركة حماس التي أذنت لجمعية أميركية مسيحية غير حكومية أن تقيمه قرب معبر بيت حانون شمال قطاع غزّة، فأصدر سماحتُه بيانا حذّر من "تداعيات" إقامة المستشفى، ودعا أهل القطاع إلى عدم التعامل مع هذا المشروع الذي يسمّيه أصحابُه مركزا صحّيا، ونقلوا معدّاته و"بركساته" من الجولان السوري المحتل. ونُشر أنه سيوفّر خمسمائة سرير، و15 قسما علاجيا، متقدّما في عدة أمراض، منها السرطان، بكفاءاتٍ طبيةٍ أميركيةٍ عالية، ويوفر خدماتِه أربعة أيام في الأسبوع، وستعمل فيه كوادر تمريضية فلسطينية. وجيّد من المفتي أنه لم "يحرّم" تداوي الغزّيين واستشفاءهم في هذه القاعدة الأمنية، والمحطّة الاستخبارية الأميركية، والتي يأتي إنشاؤها ضمن مخططٍ صهيوأميركي، كما تَسمّى هذا المستشفى، في بياناتٍ وتصريحاتٍ لحركة فتح ونافذين فيها، عزّام الأحمد وغيره. ومع التسليم بوجاهة الارتياب المشروع بأي عوْنٍ أميركي، وإنْ تحت راية جمعيةٍ غير حكومية، ومع التأكيد على عدم حق "حماس" في إجازة أمرٍ كهذا، وعلى رفض سلطة الأمر الواقع التي تمارسها في القطاع، عندما تمنح الجمعيةَ الأميركيةَ الأرض التي يقام عليها المركز الصحي، وعندما تؤمّن عناصرَ منها لحراسته، مع هذا وذاك، فإن واحدَنا يحتاج إلى أرطالٍ من قلّة العقل ليصدّق قصة قاعدة التجسّس الأميركية (على ماذا بالضبط؟)، والتي استطاب اللتَّ والعجنَ فيها فتحاويون في رام الله، من دون احترام عقول سامعيهم. وقد يمرّ في خاطر من يتابع طوفان تصريحات هؤلاء وبياناتهم الساخطة إنهم من ثوار الفيتوكينغ في سايغون، ولا ينتسبون إلى سلطةٍ اشتدّ عودُها طوْرا بعونٍ أميركي حكومي معلن.
كان في وسع وزيرة الصحة الفلسطينية، مي كيلة، أن تقول كلاما آخر، غير إنه لا أهداف علاجية للمستشفى الأميركي، وإن أغراضه سياسية. وطيّبٌ أنها جاءت على أن الولايات المتحدة لو أرادت مساعدة أهالي قطاع غزّة كان عليها أن تدعم "أونروا"، وأن تدعم القطاعات الصحية الفلسطينية. وطيّب أيضا ما قاله غير مسؤول فلسطيني، فتحاوي، عن حرب الإدارة الأميركية ضد الشعب الفلسطيني، في غير شأنٍ إنساني، غير أن القصة كلها كانت واحدةً من نوبات الانحطاط الفلسطيني المعهود في خصومة الانقسام السياسي والجغرافي الراهن، والذي برع طرفاه، حركتا فتح وحماس، في غضونِه، في توفير أرشيفٍ مهولٍ من شناعاتٍ فادحة، في لغة المكايدة والتطاول والمرجلة، وغير ذلك من صنوف الرثاثة الفلسطينية العتيدة، منذ أزيد من عشر سنوات. وهذه موقعة المستشفى الأميركي تدلّ، للمرة الألف ربما، أن الطرفين أبعد ما يكونان عن بناء المشروع الفلسطيني الوطني الجامع، سيما وأن استفراد "حماس" بقرار المستشفى معطوفا على طُرفة القاعدة الاستخبارية الصهيو أميركية توازَيا مع حديث الانتخابات، الرئاسية والتشريعية التي ما إن طرح الرئيس محمود عبّاس (84 عاما) عزمه تنظيمها، حتى قبلتها "حماس"، من دون أيّ اشتراطات تعجيزية، وإنْ أعلنت "فتح" أيضا عبّاس مرشحها رئيسا.
هو الخراب الفلسطيني أوسع مما نظن، من عناونيه اهتراء معنى الحكم وأدواته في الأراضي الفلسطينية. وإنْ يلزم، في هذا المقام وغيره، وجوب إسناد الروح الفدائية العالية التي تزاول فيها القيادة الفلسطينية تصدّيها لصفقات الإدارة الأميركية الطائشة، وعدوانية هذه الإدارة في غير ملفٍ فلسطيني. وفي محلّه تماما الكلام هنا إن هذه الروح تستحق الانتصار لها، سيما في هذه اللحظة العربية والإقليمية والدولية شديدة الصعوبة. وبالتوازي مع هذا، حاجةُ أهل غزة إلى المستشفى الأميركي الميداني كبيرة، وإنْ تفاصح بعضُهم عن قربه من مستشفيين، كما هي حاجة المنشآت الصحية الفلسطينية في القطاع المحاصر إلى دعمٍ ملحّ. وقبل ذلك وبعده، لا يحتاج أهل غزّة إلى عواطف الكلام المرسل، والفائض، وإنما إلى أن تتوفر لهم متطلبات العيش ومفرداته الأولى، وهذه قصةٌ شرحُها يطول.
معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.